صفق لمن علمك القسوة

صالح بن سعيد بن صالح الحمداني
تُعدُّ برامج التواصل الاجتماعي من أبرز التحولات التي شهدها عصرنا الرقمي، فهي لم تعد مجرد وسيلة للتسلية أو التواصل فقط بل أصبحت مساحة ضخمة للتعبير وللنقاش، ولتبادل وجهات النظر عندما تُستخدم هذه المنصات بشكل إيجابي، تتحول إلى أدوات راقية تُثري العقل، وتُغذي الروح وتُقرب المسافات وتُعيننا على فهم الحياة والناس بشكل أعمق، نعمة إذا أُحسن استخدامها ومنصة للحوار البناء الهادف.
من خلال هذه البرامج، أصبح من الممكن أن تصل رسالة واحدة لملايين الأشخاص خلال ثوانٍ معدودة وقد تصلنا رسائل لا تحمل مجرد كلمات بل تحمل طاقة فكرية وعاطفية تُجبرنا على التوقف وإعادة النظر والتفكر.
رسالة واحدة مليئة بالمعاني ففي أحد الأيام وصلتني رسالة عبر إحدى منصات التواصل رسالة قصيرة لكنها مشحونة بمشاعر متضاربة ومعانٍ عميقة، تقول في مضمونها “صفق لمن علمك القسوة .. ثم اصفعه بقوة ليعلم أنك تعلمت.”
تلك الكلمات أوقفتني شعرت كأنها تقول: “لا تنسَ من آذاك بل اجعل من ألمك سلاحًا، وردّ له الصفعة بأشد منها”.
فهل هذه هي القوة؟ أم أن هذه فلسفة انتقام مقنعة في ثوب الكبرياء؟!
ثم استوقفتني حكمة عظيمة قالها الإمام ابن القيم رحمه الله “ما ضُرب عبدٌ بعقوبة أعظم من قسوة القلب.”، هنا أدركت التناقض الكبير بين ما تحمله تلك الرسالة من تحريض على ردّ الأذى بالقسوة، وبين ما يحمله قول ابن القيم من تحذير من أن القسوة بحد ذاتها نوع من العقوبة.
وجهة نظري في الرد على القسوة حيث أحببت أن أشارك هذه الرسالة في عدة مجموعات وصفحات تهتم بالحوار والنقاش البنّاء وقد حفّزت آراء مختلفة ومتباينة، ومن هذا التفاعل الجميل صغت رؤيتي الشخصية.
فمن وجهة نظري المتواضعة الجملة الأولى في الرسالة لا تعبر عن حكمة بل عن انتقام نفسي، هي لا تعلّمنا كيف نرتقي بل كيف نرد الصاع صاعين، حتى وإن أدى بنا الأمر لأن نصبح نسخة مشوهة ممن آذونا!
أنا شخصيا لا أؤمن بهذا وأختلف، بل أؤمن أن القوة الحقيقية لا تكمن في رد الضربات، بل في كسر دائرة الأذى التي تقول “لن أكون أنت، ولن أُعيد ما فعلتَه بي.”
إن الحكمة الإلهية في التعامل أوضحت لنا الكثير وجاءت آيات كثيرة في القرآن الكريم دلّت على أن الرحمة والتسامح هي أرفع مراتب الأخلاق قال تعالى:
( ٱدۡفَعۡ بِٱلَّتِی هِیَ أَحۡسَنُ ٱلسَّیِّئَةَ ٩٦) سورة المؤمنون، وقال أيضًا سبحانه وتعالى ( وَلَا تَسۡتَوِی ٱلۡحَسَنَةُ وَلَا ٱلسَّیِّئَةُۚ ٱدۡفَعۡ بِٱلَّتِی هِیَ أَحۡسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِی بَیۡنَكَ وَبَیۡنَهُۥ عَدَ ٰوَةࣱ كَأَنَّهُۥ وَلِیٌّ حَمِیمࣱ ٣٤)سورة فصلت.
الله عز وجل يدعونا لدفع السيئة بالحسنة لا من باب الضعف، بل من باب القوة الأخلاقية والإيمان الراسخ بأن إصلاح القلب أرقى من الانتقام.
ولكن… هل الرحمة دائمًا ممكنة؟ وهنا وقفة ضرورية؟ التسامح لا يعني أن نكون محطة لصفعات متكررة، ولا أن نسمح للناس أن يستهينوا بنا أو أن يُكرروا إيذاءنا، الرحمة لا تتعارض مع الحزم، و”دفع السيئة بالحسنة” لا يعني أن نُهين أنفسنا أو نتخلى عن كرامتنا، لهذا أقول يجب أن نرد لكن بالحكمة، نُوقف سلسلة الإيذاء، لكن بطريقة لا تُفقدنا مبادئنا، ولا تجعلنا ضحايا أو جناة.
والسؤال الآخر هل القسوة ضرورية أحيانًا؟
هذا السؤال جدير بالتأمل! أحيانًا نعم …. قد نحتاج إلى شيء من الحزم ليحترمنا الآخرون، لكن الحزم ليس قسوة، أن أضع حدودًا لا يعني أنني قاسٍ، بل يعني أنني أعرف كيف أحمي نفسي.
هنا دعوتي لك أيها القارئ العزيز وسؤالي
هل ترى أن القسوة أداة حماية؟ أم وسيلة انتقام؟ وهل ترى أنك حين تُظهر الرحمة تُضعف نفسك، أم تُنقذ روحك من التحول إلى صورة مشوهة من الألم؟
ضع الإجابة بينك وبين نفسك لتكون محورا للنقاش مع الذات وقد نطرحها للنقاش من جديد وقد تتجدد فيها رؤى مختلفة، ونعود لنقول بأن برامج التواصل الاجتماعي منحتنا الفرصة لطرح هذه الأسئلة، لمشاركة هذه النقاشات، وللارتقاء بأنفسنا، فلنجعل منها منصة لبناء الفكر، لا لهدمه، ولنشارك الرسائل التي تبني القلوب لا التي تُقسّيها.