رحلة بين السعي والتطوير

د. طالب بن خليفة الهطالي
الحياة، تلك الرحلة التي تبدأ من اللحظة التي نولد فيها، هي مغامرة غير مرئية، نغادر فيها جميعا في سفينة مجهولة إلى عالم لا ندرك أين ينتهي ولا كيف تسير محطاته كل لحظة وكل خطوة وكل تحد نواجهه فيها يمثل جزءا من لغز لم نكتشفه بعد. هل هو حلم؟ أم هل هو امتحان مستمر لروحنا؟ إننا نسير في دربنا بعيون مفتوحة على عالم غير منظور، يخفى فيه المعنى وراء كل تجربة نمر بها، والتفسير النهائي للحياة يبقى غامضا، لكنه يجمع بين ما نعيشه وما نحلم به وكأننا في رحلة إلى المجهول، ولكننا نعرف أن ما نكتشفه على طول الطريق هو ما يصنعنا ويصقل مهاراتنا وينمي قدراتنا ويصنع قيمنا.
في كل لحظة من هذه الرحلة نسأل أنفسنا لماذا نحن هنا؟ ما الهدف؟ هل نحن مجرد أحياء نمشي على الأرض، أم أن هناك مغزى وراء السعي الذي لا ينتهي؟ في القرآن الكريم، يقول الله تعالى: ” وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ” (التوبة: 105). فالحياة ليست مجرد مرور بالوقت، بل هي سعي مستمر نحو الفهم، والصدق، والارتقاء بالروح، حيث يكون العمل هو المنهج الذي نبني من خلاله ذواتنا وتصبح طموحاتنا مرآة لما نؤمن به لكن ماذا عن طمأنينتنا الداخلية؟ ألا نحتاج في خضم سعينا هذا أن نعود إلى أنفسنا؟ أن نهدئ من روعنا؟ أن نتأمل في المعنى الأعمق لحياتنا؟ وقد جاء في الحديث النبوي الشريف: “من أصبح آمناً في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها” (الترمذي ) هذه الكلمات تذكرنا بأن الطمأنينة ليست في امتلاك المال أو القوة، بل في سلامة القلب والروح والرضا، فمن امتلك الأمن والصحة والقدرة على العيش بكرامة فقد نال السعادة الحقيقية التي يفقدها كثيرون في السعي وراء ما هو أكبر وأوسع.
وفي ظل كل هذا لا يمكن للإنسان أن يمر على محطات الحياة دون أن يواجه الفقد ذلك الذي يشعره بالضعف أمام المجهول فكما نعلم جميعا، كلنا سائرون في طريق يتقاطع مع الفقد، فقد الأحبة، أو فقد الفرص، أو حتى فقد الأمل، هو حتمية هذه الرحلة، ذلك الفقد الذي يعلمنا التواضع ويذكرنا بأننا لا نملك في أيدينا شيئا إلا بما قدره الله لنا تعالى يقول: “إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ” (القمر: 49). والمغزى هنا أن الفقد ليس عيبا فينا، بل هو جزء من قدر الحياة الذي يجب أن نعيشه ونتقبله، فما الذي يجعل من الرحلة أكثر قيمة؟ ما الذي يضفي عليها المعنى؟ أليس هو سعي الإنسان لتطوير نفسه؟ تلك اللحظات التي نقرر فيها أن نرفع من قدراتنا، أن نسمو بأخلاقنا، أن نرتفع بمستوى فكرنا، هذا هو الطريق الذي يعيد تشكيلنا، يجعلنا نتحدى أنفسنا ليكون لنا أثر في محيطنا وفي مجتمعاتنا، هذه الخطوات الصغيرة التي نخطوها نحو التغيير الداخلي تكتسب مع الزمن قوة عظيمة لتصبح قوة تغيير مجتمعي ودعامة للدولة نفسها.
إن السعي المستمر لتطوير الذات لا يهدف فقط إلى نيل المجد الشخصي، بل إلى المساهمة الفاعلة في بناء مجتمع قوي ومتوازن، فالفرد الذي يطور نفسه لا يصبح فقط شخصا أفضل، بل يصبح ركيزة أساسية لبناء مجتمع متماسك كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: “من يعلم الناس الخير فهو أفضل الناس”، وهي كلمة تحمل في طياتها رسالة عظيمة بأن التطوير الشخصي لا يقتصر على الفرد فقط بل يؤثر في محيطه وبالتالي يسهم في رفع مستوى المجتمع ككل، فالعقل المتفتح والقلب النابض بالمعرفة والأخلاق هما من يسهمان في تشكيل واقعٍ جديد؛ إذ لا يكفي أن يسعى الفرد نحو تطوير مهاراته، بل يجب أن يعي أن هذا التطوير يسهم في خلق بيئة صحية ومستدامة وفي الحديث الشريف: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق” (صحيح البخاري)، نجدها دعوة واضحة للنمو الأخلاقي، الذي لا يبني فقط شخصية الفرد، بل يسهم في بناء مجتمع مزدهر ومتلاحم، فالأخلاق هي الأساس الذي يقوم عليه كل مجتمع يطمح للنمو والاستقرار.
ولكن هل يمكن للمجتمع أن يزدهر دون أن تكون هذه التنمية الفردية نواة لبناء دولة؟ بالطبع لا. فالمجتمع الذي يضم أفرادا ينمون ويسعون للتطور هو مجتمع يسهم في بناء دولة قوية قادرة على مواجهة التحديات ، والجهل لا يُصيب الأفراد فقط، بل المجتمع بأسره، ومن هنا تأتي أهمية بناء الأفراد على أسس من العلم والوعي الأخلاقي، وهنا يصبح تطوير النفس ليس هدفا فرديا محضا بل هو جزء لا يتجزأ من بناء المجتمع ثم الدولة، فكل خطوة نحو تحسين الذات تعتبر خطوة نحو تحسين المجتمع الذي نعيش فيه، مما يعزز قوة الدولة ويعطيها القدرة على النمو والتقدم.
هكذا هي الحياة، مليئة بالعزائم والآلام، ولكنها في الوقت نفسه مليئة بالفرص العظيمة. كل تحد هو فرصة جديدة لنعرف أنفسنا، ولندرك حدود قوتنا هذه هي الرحلة التي لا تنتهي إلا عندما نصل إلى أعماق أنفسنا ونعرف غايتنا في النهاية، إن الحياة ليست فقط عن الجري وراء المال والشهرة، بل هي رحلة مستمرة نحو السمو الروحي والخلقي، وهي رحلة تكتسب من مغزاها وغاياتها الحقيقية.
إننا هنا لنتعلم ولنتطور ولنواجه التحديات بعزيمة وإيمان وكل لحظة نحياها سواء كانت في عبادة أو في عمل صالح، هي خطوة نحو السلام الداخلي والنجاة، إن الحياة ليست مجرد رحلة عابرة، بل هي اختبار دائم لقوة إيماننا، وطريق نحو بناء إرث روحي يبقى بعد الرحيل فلنعيش بوعي ولنستعد لكل ما هو قادم فالله هو الحامي وهو الذي يعلمنا معنى الحياة.