عالم افتراضي وزيف واقعي

شيماء بنت سعيد الرقادية
في عصرنا الحديث، لم يعد الناس يعيشون اللحظة، بل يوثقونها. أصبحت الكاميرا وسيلة لتجميد الذكريات، لكن في كثير من الأحيان تحولت إلى حاجز يفصلنا عن التجربة الحقيقية. لم تعد المناسبات تُعاش بحقيقتها، بل تُفلتر وتُجمَّل قبل مشاركتها، وكأن القيمة أصبحت في اللقطة لا في اللحظة.
في كل مناسبة، حفلة، أو لقاء عائلي، ترى الجميع منشغلين بعدسات هواتفهم، يبحثون عن الزاوية المثالية، عن الإضاءة المناسبة، وعن صورة تُظهرهم بأفضل حال، وكأن الغاية لم تعد الاستمتاع، بل الإبهار. لكن وسط هذا الهوس بالتوثيق، يفوتهم الجوهر، تضيع اللحظة، ويصبح كل شيء مجرد استعراض.
الأغرب أن الكثيرين لم يعودوا يشاركون من أجل المشاركة الحقيقية، بل من أجل “المحتوى”! صارت الحياة تُعاش من أجل التصوير، لا من أجل التجربة. بدلًا من الضحك العفوي، أصبحنا نعيد اللقطات حتى نحصل على الصورة المثالية. وبدلًا من العيش في عمق الحديث، بتنا نتوقف لالتقاط فيديو يوثّق الحدث، وكأن الفعل ذاته أقل أهمية من نشره.
كنا في الماضي نحضر حفلة، نعيش الأغاني، نشعر بالإيقاع، ونغرق في الحماس. اليوم، نحضر هواتفنا قبل قلوبنا، نصفي العدسة، وننشغل بتصوير كل لحظة، حتى تمر الحفلة بأكملها ونحن لم نعشها فعلًا! أصبحنا نخرج في الرحلات لا لنستمتع بالمنظر، بل لنصور وجبة الطعام، وننشرها مرفقةً بعبارات مستهلكة مثل: “لحظات لا تُنسى!”، رغم أننا لم نعشها أصلًا.
حتى في اللقاءات العائلية، باتت الصور أهم من الذكريات الحقيقية. الأم تجمع أطفالها لالتقاط صورة مثالية، لكن بعد اللقطة، يعود كل فرد إلى هاتفه، غارقًا في عالمه الرقمي، بلا تواصل حقيقي، بلا دفء، بلا لحظات تُشعرنا بأننا معًا.
التصوير ليس خطأً، بل هو وسيلة رائعة لحفظ الذكريات. لكن عندما يصبح غايةً بحد ذاته، يتحول إلى سارق للمتعة. لا بأس أن نوثق، لكن يجب ألا ننسى أن نعيش. فالحياة ليست مجرد محتوى رقمي، بل مشاعر، تفاعلات، ولحظات غير قابلة للإعادة.
ربما حان الوقت لنتوقف قليلًا، لنضع هواتفنا جانبًا، ونتعلم كيف نعيش اللحظة حقًا. أن نستمتع دون الحاجة إلى إثبات ذلك للعالم، أن نضحك دون توثيق، أن نتأمل دون مشاركة، وأن نعود إلى الجوهر، حيث الحياة تُعاش، لا تُصوَّر فقط.