نقطة في بحر الوجود

د. طالب بن خليفة الهطالي
نحن نقطة في بحر الوجود، كائنات هشة تحاول فهم سر الحياة وسط مجرة لا تكترث لوجودنا نعيش فوق كوكب صغير، معلق بين النجوم، في زاوية نائية من الكون الشاسع نظن أننا نملك الأرض، وأننا نحكم مصيرنا، والواقع أننا مجرد عابري سبيل، عابرون كالسحاب، نستظل بسمائها أياما معدودة، ثم تبتلعنا الرمال ويطوينا النسيان، نحن كائنات صغيرة تعيش فوق صخرة زرقاء تائهة في مجرة لا تلقي لنا بالا، نقطة في بحر الوجود اللامتناهي، ولأن العقل البشري مهووس بالبحث عن المعنى فإنه يطرح الأسئلة ويبحث عن دوره، ويحاول أن يفهم لماذا هو هنا؟ وكأن الكون مدين له بإجابة والحقيقة أننا لسنا سوى كائنات زائلة في فضاء لا نهائي، نأتي ونرحل كما لو لم نكن، إلا أن وعينا هو الشيء الوحيد الذي يميزنا عن الغبار الكوني الذي نحسب أنفسنا أننا أعظم منه.
نحن أثر في صفحة الفضاء نغيب كما يغيب النجم في سديمه، ونحلم كما تحلم الأشجار بضوء الشمس، لكننا في النهاية زائلون، فقد نظر الإنسان إلى السماء، وشعر بصغر حجمه أمامها، فتأمل النجوم ونسج حولها الأساطير، ثم جاء العلم ليخبره أنه مجرد ذرة غبار يدور حول نجم في مجرة ليست حتى الأكبر بين المجرات ومع ذلك يبقى السؤال لماذا نحن هنا؟ رحلة تبدأ بصراخ الميلاد وتنتهي بصمت القبور، إنها حياة تتراقص بين لحظة البداية ونقطة النهاية يختصرها الزمن في رمشة عين لا يبقى إلا منها إلا الأثر، ولا يُذكر إلا العمل، فإما أن يكون حضورنا نورا يهتدي به العابرون، أو ظلاما لا يذكر إلا بالأسى، فمن زرع خيرا جناه، ومن سار في الظلام تعثّر، ومن عاش بلا معنى كان كأوراق الخريف تتساقط بلا هوية، وتذروها الرياح حيث لا عودة.
وإذا ما تأملنا قوانين الكون، وجدنا أن وجودنا ليس بديهيا وليس وليدُ مصادفة كونية عمياء، وإنما هناك غاية خفية لم نفهمها بعد، فقد حاول الفلاسفة والعلماء الإجابة عن هذا السؤال منذ الأزل، فيرى البعض أن وجودنا عبارة عن حادثة عرضية نشأت من تفاعل المادة مع قوانين الطبيعة بلا هدف أو معنى، بينما يرى آخرون أننا جزء من معادلة كونية أكبر وأن لكل ذرة دورا مهما بدا تافها في عين الزمن، وجاء القرآن الكريم يبين أن خلق الإنسان والكون لم يكن عبثا أو بدون غاية، بل كان جزءا من خطة إلهية عظيمة:
“وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ، لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ”-[سورة الأنبياء، آية: 16].
فإذا كنا مجرد نقاط زائلة، فهل يعني ذلك أن حياتنا بلا قيمة؟ أم أن القيمة تُصنع لا تُمنح؟ هنا ينقسم الفكر البشري إلى مدرستين الأولى هي العدمية الوجودية التي ترى أن الإنسان مجرد عابر في هذا العالم، وأن حياته لا تحمل معنى خارج ما يصنعه لنفسه، أما الثانية فهي المسؤولية الوجودية التي ترى أن الوعي البشري يجعل لكل إنسان دورا، فحتى لو كان الكون لا يهتم بنا، فإننا نستطيع أن نترك أثرا يجعل وجودنا ذا معنى وهنا يقدم القرآن الكريم إجابة واضحة على هذا التساؤل حول قيمة الحياة والهدف منها ويُظهر أن له قيمة وهدف في هذه الحياة، ويعطيه هدفا وغاية يسعى لتحقيقها، وهي العبادة والعمل الصالح، ويتناقض هذا مع النظريات العدمية التي تقول إن الإنسان ليس له هدف أو غاية بخلاف ما يصنعه لنفسه.
“قال تعالى: “وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ”-[سورة الذاريات، آية: 57].
فبين كل هذا يقف الإنسان مترددا يبحث عن شيء يتمسك به، بعضهم يجد المعنى في الحب، وآخرون في الإبداع، وآخرون في البقاء مجرد متفرجين على مسرح الوجود، فما أعجب الإنسان يقضي عمره يخشى الموت، لكنه في الوقت ذاته يعيش كأنه خالد يخطط للمستقبل، يبني القصور، يكدّ ويجتهد، ثم في لحظة صامتة ينطفئ، ويُطوى اسمه كما تُطوى صفحات كتاب قديم، يقول أبو العلاء المعري:”خفف الوطء، ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد” إن الموت الحقيقة الوحيدة التي لا جدال فيها، وهو الذي يجعلنا ندرك هشاشتنا ولكن ماذا يبقى بعد أن نرحل؟ (العمل، الأثر، الذكرى) هذه هي الامتدادات الوحيدة التي قد تمنح لحياتنا شيئا من الخلود.
فإذا كان الكون بهذا الاتساع، فلماذا نشعر بهذا القدر من الأهمية؟ هل لأن وعينا يمنحنا إحساسًا بالذات؟ وهو ما يجعلنا نعتقد أن هناك فرقا بين وجودنا وعدمه، نحن لا شيء أمام النجوم ولكننا كل شيء أمام أنفسنا، نحن الكائن الوحيد الذي يعي فناءه ومع ذلك يعيش وكأنه أبدي ويقول جلال الدين الرومي:
“لستَ قطرةً في المحيط، بل المحيط في قطرة.”
الإنسان كائن هش محكوم بالوقت بحاول أن بترك أثرا قبل أن يبتلعه النسيان، قد يكون الكون لا مباليا به، لكنه يملك الخيار أن يكون مجرد غبار يتلاشى، أو أن يصبح شموعا تضيء حتى آخر لحظة، فلنحيا بوعي، ولنعمل بصدق، ولنترك أثرا يستحق الذكرى، لا لمجد زائل، بل لأمل يتجدد في قلوب من يأتون بعدنا فالحياة قصيرة، والمصير محتوم، والخيار بأيدينا؛ إما أن نكون كالشموع التي تحترق لتنير، أو كظلال الغروب التي تتلاشى بلا أثر.