مقال: كم كتابا قرأت .. كم تغيراً شهدت؟
أحمد بن سالم الفلاحي
تفرض علينا القراءة سطوتها الضاغطة في غير حول منا، وسعنا لها هذا المساحة من السطوة؛ أم لم نوسع، فهذا ديدنها مع من يعتلي عرش هامتها، فهي ليست من السهولة بمكان، هي لا تتوسل قارئها، ولا تنحني له ضعفا، ولكن إن حدث واقترب منها استحوذته، وأخذته بكافة تلابيب ذاته ومادته، وأغرته بمباهجها، واستحكمت قبضتها عليه، فلم يذهب بعيدا عن المسارات التي توجهه اليها، هي علاقة من نوع خاص، وهي ارتباط متفرد لا يعيه إلا من أسقط نفسه في مساحة الحلم الذي توفره له، حيث تذهب به بعيدا عبر القارات، وعلى امتداد فضاء السموات، ومن هنا تترسخ هذه العلاقة العضوية بين الطرفين، قارئ لا يمل، وقراءة تتوسع بفضاءاتها الرحبة على امتداد الأفق؛ وما بين الأراضين، حيث الحفر في الأعماق، وأعماقنا ليست سهلة ويسيرة، ولكنها تتوسع مع كل كلمة تأخذ طريقها لتنبت فكرة وعبرة وموقف.
نعم؛ السؤال المطروح في العنوان، هو سؤال كمي، والكمية هنا أيضا ضرورية، وإن كان الموضوع يذهب أبعد من ذلك، ففعل القراءة، كما يعرفه الجميع، هو نوعي بالدرجة الأساس، ولكن هذه الكمية هي التي تذهب الى البعد النوعي فتوقظ فيه تأثيراتها، وتنثر عبر جوانبها شظياتها حيث تنير الجوانب المظلمة، فالمسافة بين القراءة والقراءة، هي ذاته بين عمود كهربائي وأخر على امتداد طريق يصل طوله آلاف الكيلو مترات، فلا يحس مرتادوه بوحشة المسافة الفاصلة بين المدينة والمدينة، بقدر ما يتسع أفق الرؤية حتى تكون الصورة أكثر وضوحا.
نطرح هذا السؤال الكمي؛ لاقترابنا من نهاية عام الحالي، فإن تحقق شرط الكم في اقتناء عدد الكتب التي مرت عليها أوقاتنا – قراءة واطلاعا – طوال هذا العام، الذي يلملم أوراقه، فنعم بذلك وسهلا، ونعد ذلك منجزا شخصيا في غاية الأهمية، حيث نستطيع أن نضع مستوى معينا من القناعات، ومن الرؤى، ومن المواقف، ومن النوافذ الجديدة في حيواتنا المختلفة، ومن استثارة الكوامن والعواطف، ومن المراجعات الموضوعية لمختلف ممارساتنا اليومية، ومن التبدل والتغير، ومن المراجعة وترتيب البيت الداخلي، كما يقال، وإن لم يتحقق شرط الكم، فنستطيع أيضا أن نقيم سرعة تراجعاتنا حيال ذلك كله، وعلينا أن نسد هذه “اللثمة”، فاتساعها خطير أيضا، فـ “للقراءة” فعل السحر، وللقراءة اثر الفعل وشمولية المعرفة.
نشرت مجلة الدوحة في عددها (110) ديسمبر 2016م، مقالا مترجما بعنوان (هل يساعد الأدب في العيش؟) للكاتبة الفرنسية؛ هيلوازي ليرتي، اقتطف منه هذه الفقرة: “بعض الكتب توقظنا، وبعضها الآخر يغيرنا، كتب تسقط من أيدينا، إما لكونها غير موجهة إلينا، أو لأنها جاءت في غير زمانها، وأخرى تجعلنا في حالة سبات، الا أن كل هذه الكتب تحوي بذور التجديد، ما هي – إذا – حياة القارئ؟ إنها منفى ذهبي، لكنها – أيضا – تقلب للفرد، دون سلام، او وفق إمكاناته الخاصة، وقيوده، وحدوده” – انتهى النص -.
إذن؛ ولأننا على مشارف عام جديد، يصبح في حكم الإلزام، أن نستطيع الإجابة في نهايته على هذا السؤال الكمي، لأنه أصبح ضرورة أكثر من أي وقت مضى، المعرفة اليوم ملحة، أكثر من أي وقت آخر، المعرفة اليوم رسول هداية أكثر من أي وقت مضى، المعرفة اليوم تضعنا على مفترق طرق مهم؛ نكون أولا نكون، المعرفة اليوم على كثر شيوعها إلا أنها تصبح عصية أكثر عندما تركن الكتب، ولا يكون لها ذلك الكم من الوجود، ومن البقاء، ومن الأثر.