دفء الشتاء وطقوس الألفة
حمدان بن هاشل العدوي
عضو الجمعية العمانية للكتاب والأدباء
كانت هناك حقبة لا يذكرها أحد هنا، حين كانت الشمس تُلقي بأشعتها عموديةً فوق الأرض، وكأنها تبسط هيبتها المطلقة بلا تردد، يومذاك، كان الحديث عن الشمس وهجًا من الحرارة التي لا فرار منها، يسود المجالس وينسج صور الصبر والتحمل، الناس في ذلك الوقت، رغم أنهم كانوا يعيشون تحت سطوة هذه الشمس العمودية، كانوا أكثر ارتباطًا بتفاصيل اللحظات، بأوقات السنة وتقلباتها، بأشعة الشمس في عزها وتوهجها، ومع مرور الزمن، باتت هذه الذكريات شبيهة بحكايات قديمة، لم يعد أحد يتحدث عنها، فالأهم عند الناس الآن هو الشتاء.
الشتاء، فصل من نوع آخر، يجلب البرد ويوقظ الحنين، إنه يأتي محملاً بالرياح الباردة، يدفع الناس للبحث عن دفء يحيي قلوبهم، ويعيد إليهم دفء أيامهم الماضية، لم يعد الشتاء مجرد فصل بارد؛ بل بات جزءًا من حياتهم وطقوسهم، موسمًا يختبئون فيه بين جدران منازلهم، يتجمعون حول مدافئهم، يجتمعون ليتقاسموا لحظات الألفة، ولكل عائلة طقوسها وأسرار دفئها، وبجانب المدفأة، يجلس الجميع متحلقين حولها، يتحدثون، يضحكون، ويستمتعون بتناول التمر والقهوة والحليب الدافئ.
التمر، ملكة الضيافة، يحتل موقعه في المجالس كعنوان للكرم ودفء الاستقبال، وقد تجذر في أعماق التراث ليكون رمزًا لمودة تجمع القلوب، الحبات الطرية، التي تحمل حلاوة بسيطة ولونًا يعكس تراب الأرض المباركة، تنقل شعورًا من الطمأنينة، ومع ارتشاف القهوة، تلك الحبات الداكنة ذات الرائحة الزكية، يشعر الجالسون بالسكينة وهي تتغلغل في نفوسهم، تتجلى معها قصص الأجداد وتذوب مشاعر التوتر ليحل محلها إحساسٌ من السعادة والدفء العائلي.
ثم يأتي الحليب الدافئ، الذي يشبه الوعد بالتعافي والاطمئنان، إنه ليس مجرد مشروب يُشرب ليُدفئ الجسم، بل هو طقس يوقظ الذكريات العتيقة؛ ذلك الحليب الذي كانت الجدات يسخنّه بحب، برائحة المنزل الذي كانت تعبق به الأحلام الصغيرة، يدفئ الحليب القلب قبل الجسد، وينشر طمأنينة تهدهد العائلة جمعاء، فيشعرون بتكامل، وكأن الحليب يرمز لشيء من طفولتهم، لبراءة لم تندثر تمامًا.
لكن الشتاء لا يتركهم ينسون، فهو مع قساوته يعلمهم احترام المسافات، في هذا الفصل، يتعلمون أن الاقتراب المفرط قد يجلب نوعًا من التعقيد، لذا يدعوهم البرد للاحتفاظ بمسافات مريحة، مسافات يتخللها الأمان والاحترام، ففي طقس الشتاء البارد، يدركون ضرورة التوازن بين الدفء الشخصي والحاجة إلى احترام مساحات الآخرين، فالبرد يمنحهم أعذارًا للحفاظ على حدودهم، كما يمدهم بشعور أعمق بالاحتواء، فيحافظون على مسافة كافية تسمح لهم بالشعور بالأمان.
تأتي اللحظات الشتوية لتذكرهم أنهم جزء من نسيج أكبر، حيث يتشابه الجميع في معاناتهم مع البرد وحبهم للدفء، فيتشاركون التمر والقهوة والحليب الدافئ وكأنها رسائل صامتة، تُرسى فيها صِلات القربى والتواصل، ويعيد الشتاء تأكيدها كل عام.