مقال: الرعاية الأبوية
الكاتب أحمد بن سالم الفلاحي
تتجذر علاقاتنا الاجتماعية على مفهوم “الرعاية الأبوية” في كل شيء، وهذه الرعاية بقدر أهميتها في إيجاد نوعا من التكاتف، أو الود، أو الاعتراف بالفضل بشكل عام، إلا أن أضرارها كثيرة، وخطيرة، حيث تؤول في نهاية المطاف الى الاتكالية المقيتة في حياة الأفراد، مما يتلبس المجتمع نوعا من الاتكالية المفرطة في الواجب؛ الذي يغيب في نهاية المطاف الحقوق، وهي الحقوق المتعلقة بالآخر، سواء أكان هذا الآخر فردا، أو مجموعة أفراد، أو حتى مؤسسات في معناها الأشمل.
ينظر الى إشكالية “الرعاية الأبوية” على أنها ثقافة مجتمع، ولأنها ثقافة مجتمعية فمن الصعب تجاوزها بالسرعة المأمولة عندما تقيم ويظهر هذا التقييم أنه آن الأوان للتخلص منها، بما يلحق ذلك من اعتراضات وردود فعل متباينة، خاصة من كبار السن، الذين يرون في بقاء هذه التبعية لـ “الرعاية الأبوية” نوعا من البقاء على قيم المجتمع، لأن الخروج عنها؛ معناه الخروج عن كثير من التزامات الأبناء تجاه آبائهم، والأفراد تجاه من يعولهم، وهذا فهم خاطئ.
فالتعليم المجاني – على سبيل المثال – هو نوعا من “الرعاية الأبوية” الذي تقدمه الحكومة لأفراد المجتمع، وهو ما يندرج تحته مفاهيم كثيرة تسير في خط التوازي، مثله مثل الرعاية الصحية المجانية، والرعاية الاجتماعية المجانية، وقس على ذلك عددا من الخدمات التي تقدمها الجهات المعنية للأفراد، ولذلك عندما أشيع أنه سوف يرفع الدعم عن خدمات الكهرباء والمياه، كانت هناك ردود فعل أغلبها رافضة الفكرة، وربما من هنا جاءت فكرة بيان الدعم الحكومي في هاتين الخدمتين على وجه الخصوص مسجلا في الفاتورة الشهرية؛ هذا مثال؛ والسؤال لماذا يخاف المستهلك من رفع الدعم، سواء في هذه الخدمة أو غيرها، لأنه تربى على هذه الرعاية، وأصلت فيه نوعا من الاتكالية، وهي الاتكالية التي أدت به الى عدم الاكتراث بالإسراف في أي منهما، وعدم اقتصار الاستهلاك على الخدمة، وما ينظر الى هذه الصورة، ينظر أيضا الى صورة ذلك الذي يرمي بعدد غير قليل من الأدوية في صناديق القمامة قبل استهلاك معظمها، لأن في اليوم التالي سيذهب الى المركز الصحي؛ وسوف يصرف له نفس الكمية إن لم تزد، بنفس الرسم الذي دفعه من قبل وهو (ريال عماني واحد ومائتي بيسة) وهناك من يرفض دفع حتى هذا المبلغ البسيط.
أحد أولياء الأمور اشتكى لي شخصيا أن هناك من أبنائه من يعمل ويتقاضى راتبا ممتازا، ومع ذلك في كثير من الأيام يأتي ليطلب مبلغا ما، لـ “بنزين” السيارة، لأنه لا يملك حتى هذا المبلغ الزهيد حتى نهاية الشهر، وعلى الوالد ومن قبيل هذه “الرعاية الأبوية” أصبح في حكم الواجب أن يزود هذا الإبن بالمبلغ الذي يريده، وإلا عد موقفه الرافض إجحافا في حق هذا الابن أو ذاك، ولو يعرف الإبن أن اباه سوف يرفض هذا الطلب، لعمل مليون حساب، كما يقال، ولحرص على توزيع راتبه الشهري على التزاماتها الشهرية حتى آخر الشهر، دون أن يعود الى أبيه أو أحد من أفراد اسرته، أو أحد من أصدقائه ليستلف مبلغا زهيدا كهذا، وقس على ذلك أمثلة كثيرة.
يتصور كثير من الذين يؤمنون بالواقعية أنه آن الأوان للانفصال من هذه “الرعاية الأبوية” الدائمة والمستمرة في تقديم الخدمات المجانية سواء على مستوى الأفراد، أو المؤسسات، وذلك إعلاء لفهم أوسع للمسؤولية الفردية، وهي المسؤولية التي تنشئ جيلا معتمدا على نفسه بصورة أكبر، وهي الصورة التي تؤدي بأفراد المجتمع الى التفكير الجدي في كل ما يخص شؤونهم الخاصة والعامة، ولتبقى “الرعاية الأبوية” صورة من صور الماضي.