لمحات من الماضي .. الجزء الثالث
سليمان بن حمد العامري
كانت تلك اللحظة كالصاعقة. نظرتْ إليه شذا بدهشة، وكأنها لا تصدق ما تسمع. تراجعتْ خطوة إلى الوراء، وتملّكتها مشاعر مكسّرة، ثم قالت بصوت مفعم بالإعجاب: سامي؟ سامي؟ كيف… كيف وجدتك هنا؟ بعد كل هذه السنين؟
أصبح الصمت سيد الموقف، لحظات طويلة، وكأن الزمن توقف ليعيد لهما ذكريات الماضي. لم تكن الليلة مجرد ليلة مطيرة، بل كانت ليلة استعادة كل ما فُقد منذ عشرين عاماً.
لم أكن أتوقع أن أراكِ هنا، في هذا المكان. قال سامي بصوت خافت.
نظرت شذا إلى الأرض للحظة وعيناها مغطاتان بالدموع، ثم رفعت رأسها وقالت: ولا أنا كنت أتوقع أن أراكَ. القدر غريب أحياناً.
تبادلا نظرات طويلة، كانت فيها كل شيء: الشوق، الألم، الذكريات، والأسئلة التي لم تجد إجابات لها طوال تلك السنين. كيف افترقا؟ لماذا لم يلتقيا من جديد؟ ماذا كان يمكن أن يحدث لو أن الظروف كانت مختلفة؟
حدثيني طوال هذه المدة، كيف كنتِ؟ وكيف اختفيتِ؟ سأل سامي وهو يحاول فهم ما حدث لها بعد الابتعاد.
ابتسمت شذا ابتسامة حزينة، وقالت: الحياة أخذتني في طرق لم أتوقعها. بعد سفرك وابتعادك لم أحتمل فراقك، فقررت الزواج بأي رجل يتقدم لي، ثم … حدثت أشياء كثيرة … وتابعت بسرعة واختصار وكأنها تتحدث بدون إحساس أو وعي، وكأن هناك شيئاً ما أراد أن يخرج من سرّ الضيق والقلق الذي كانت تعيشه. توقفت للحظة وكأنها تتذكر شيئاً مؤلماً، ثم تابعت: وأنت؟
أخذ سامي نفسَاً عميقاً، وقال: الحياة استمرت، لكن لم يكن الأمر سهلاً. حاولتُ أن أمضي قُدماً، فتزوجت، لكن… لم أنسَ.
نظرت شذا إلى السماء وكأنها تحاول الهروب من ثقل اللحظة، ثم قالت: لم أكن أتوقع أن يجمعنا القدر من جديد في هذا المكان. أنا هنا مع أمي، تحتاج إلى غسيل الكلى بانتظام.
صمت سامي للحظة، ثم قال: آسف لسماع ذلك. أتمنى أن تتحسن حالتها.
هزت شذا رأسها بصمت، ثم قالت: شكراً. الحياة ليست دائماً كما نخطط لها.
كانا يعلمان أن اللحظة مليئة بالتناقضات. جزء منهما سعيد باللقاء، وجزء آخر مليء بالحزن على ما فات وما لم يتحقق. ولكن، رغم كل شيء، كان اللقاء بمثابة إغلاق لدائرة افتُتحت قبل عشرين عاماً ولم تغلق حتى الآن.
سألها سامي بلطف: هل يمكن أن نتحدث مرة أخرى هنا؟
ابتسمت شذا ابتسامة باهتة، وقالت: ربما… لكن ليس الآن. الأمور معقدة في حياتي.
أدرك سامي أن الوقت لم يكن مناسباً لإعادة الماضي، لكنه شعر بنوع من الراحة، لأن القدر أعطاه فرصة ليعرف أن شذا ما زالت على قيد الحياة، وأنها بخير.
ابتعدت شذا ببطء، تاركة سامي واقفاً في مكانه يتأمل تلك اللحظة. كان يعلم أن هذا اللقاء قد يكون فرصة ثانية، لكنه في نفس الوقت لم يكن متأكداً إن كان يجب عليه أن يتمسك بها.
في تلك الليلة المطيرة، غادر سامي المستشفى وقلبه مملوء بمشاعر مختلطة.
(يتبع)