نص حضن
خميس البلوشي
في زحمة الحياة وتفاصيلها المتشابكة، تتوق الروح إلى حضنٍ يتجاوز كل الكلمات، حضنٌ لا يترجم بالأحرف ولا يعبر عنه إلا الشعور، إنه حضنٌ من دفء المشاعر، يعيدك إلى فطرتك الإنسانية الأولى، حيث لا قلق ولا خوف، فقط أنت وما تحتاجه من طمأنينةٍ وسكون.
يأتي “الحضن” في اللحظات التي تشعر فيها بأنك بحاجةٍ لأن تكون بعيدًا عن ضجيج العالم، حين تصبح الصراعات الداخلية أقوى من قدرتك على التحمل، إنه ذاك المأوى الآمن الذي تأوي إليه حينما يخذلك الجميع، وحينما تصمت كل الأصوات وتبقى وحدك مع أفكارك وتعبك، هنا يأتي الحضن لينتشل قلبك من عمق البئر إلى سطح الحياة مرة أخرى.
هو ليس حضن مادي بالضرورة، بل حضنٌ روحيّ تتلاقى فيه الأرواح، يملؤه فهمٌ صامت لكل ما تعانيه، إنه تلك الرسالة غير المكتوبة التي تصل إليك دون كلمات، ذلك الأمان الذي ينبعث من عيونٍ تنظر إليك وتفهمك دون أن تتحدث،
وفي لحظات الخوف، يظل الحضن هو الملاذ الذي يحررك من ثقل العالم، ويمنحك القوة للاستمرار، قد لا يكون حضن ملموسًا، لكنه حضنٌ يمد جسور الأمل بينك وبين نفسك، هو الأمل الذي يغمر قلبك حينما تتلاقى العيون، أو حتى حينما تستحضر الذكريات التي تحمل بداخلها هذا الدفء الذي لا ينضب.
“نص حضن” هو جزء من حياتنا اليومية؛ قد نجده في ضحكة طفل، في نظرة حنانٍ من أمٍ أو أب، أو حتى في كلمة صديقٍ تعرف أنها صادقة، إنه النص الذي لا يكتب بالحبر، بل بالقلب، وهو النص الذي لا تقرأه العيون بل الروح.
ومع كل نبضة، ينساب “نص الحضن” في شرايين الحياة، ليعيد ترتيب الفوضى التي تعم القلب، إنه أشبه بمرساة ترسو بها في لحظة اضطراب، حيث يهدأ كل شيء ويعود إلى توازنه، لا يتطلب الحضن تفسيرًا أو مبررًا، فهو يأتي ببساطة كاحتياجٍ فطري نلجأ إليه دون أن ندرك عمق قيمته إلا حين نفتقده.
في عز الوحدة، قد تجد “نص الحضن” بين صفحات كتابٍ قديم، أو في أغنيةٍ تتردد كلماتها في أذنيك كما لو كانت كتبت خصيصًا لك، وفي غمرة الحزن، قد يكون “نص الحضن” لمسةَ يدٍ حانية، أو حتى رسالة قصيرة تصل إليك في لحظة تحتاج فيها إلى طيفٍ من الاهتمام.
الحضن ليس محصورًا في البشر وحدهم، فالحياة كلها قد تمنحنا هذا الحضن إن أمعنا النظر، قد تجده في فنجان قهوة صباحي تتلذذ به في لحظات الصفاء، أو في نسمات الهواء التي تلامس وجهك في يومٍ صيفي حار، هو الحضن الذي قد يختبئ في التفاصيل الصغيرة التي غالبًا ما نتجاهلها.
“فنص الحضن” ليس مجرّد تجربة مؤقتة؛ إنه حياةٌ قائمةٌ بذاتها، هو الشعور الذي يعيد لنا إنسانيتنا، ويذكرنا بأننا مهما كنا أقوياء أو مستقلين، يبقى بداخلنا ذاك الطفل الذي يحتاج إلى حضنٍ دافئ، حضنٍ لا يعيد تشكيل الخارج بقدر ما يعيد ترتيب الداخل، هو لحظة تعبير صامتة لا تنتمي إلى زمن، ولكنها تحفر عميقًا في وجدانك، وتترك أثرًا لا يُمحى، فهو ذاك العناق الذي نعطيه لأنفسنا، أو نلقاه من الحياة حينما نحتاجه دون أن نطلب، هو التذكير بأننا بشر، نعيش بالتفاعل، ونتغذى من لمسات الروح، تلك التي تغمرنا وتعيد لنا السلام الداخلي.