جريمة وعسس- الجزء الثاني عشر
خميس بن محسن البادي
تابعنا في الجزء السابق أن همام وزوجه لبّيا دعوة شهم لهما وخلال استضافتهما قدم لهما مواساته واعتذاره لما تعرضا له، وحيث عرفا منه أن أحد المعتدين عليهما هو ابنه الأمر الذي جعلهما يستأذنان ويغادران منزل شهم على عجل نتيجة ما أصابهما من ذهول مشوباً بالتوجس فهما في منزل أهل المجرم الذي اعتدى عليهما ويجهلان ما قد يحدث لهما من ردة فعل أو انتقام.
غادر الضيفان وسهم وأمه لم يعيا ما في نفس شهم نحو همام وهيام في الوقت الذي كانت فيه نغم على الحياد من قضية ابنها وهي التي ينتظر منها أن تحث زوجها على إنقاذ فهم بوصفه ابنها لكنها اتخذت موقف الحياد ربما لما قد تشعر به نحو هيام التي تعرضت لاعتداء سافر من ابنها وزميليه وهي التي تعرضت في ما سبق لجرم مماثل أقل منه بشاعة، وفي الطريق علل وبرر وحلل همام لهيام سبب هذا اللقاء وكرم الضيافة من أنه ما هو إلا تمهيد لطلب التنازل عما لحق بهما من فهم ورفيقيْه، فسألته هيام عما إذا كان سيقبل التنازل لأجلهم أم سيكون عند موقفه السابق والغير قابل للنقاش والمساومة، فأجابها بأنه يمكن أن يتنازل عما لحق به هو من إصابات لكنه لا يمكنه التنازل عن اعتداء المجرمين عليها هي فبررت تقنعه باحتمالية خطأ توقعاته وتبريراته بحجة أن شهم لم يتطرق لموضوع التنازل عن الجناة، وهو بدوره يبدو كأنه قد اقتنع بردها ولو متشككاً في نيات شهم وأنهى نقاش الموضوع بتمني الخير والتوفيق من الله تعالى دائماً.
وبينما ينتظر أطراف قضية هيام وهمام موعد التقاضي كلّف سهم بعض زملائه بالعودة لمتابعة بقية قضايا السرقات الموجودة معه منذ مدة التي سبق وأن طلبها من مراكز الشرطة من خلال العمل على اتخاذ إجراءات مخبرية على فهم ورفيقيْه وسؤالهم عنها علّهم يعترفون بشيء منها حيث واصل اثنان من طاقم العمل عملهم إلى ما بعد ساعات عملهم الرسمية، وبالخبرة العملية وإدارة الحوار وفن مجادلة المراوغة وأسلوب اصطياد الثغرات ومناقشة الهفوات ورصد وتتبع الزلات وسعة البال والحظ الحسن وما توفر من أدلة في بعض القضايا وقبل ذلك كله توفيق الله تعالى لهم ، أمكن لهذين الرجلين أخذ اعتراف اثنين من أولئكم الثلاثة أحدهما فهم الذي أكد معترفاً بارتكابهم هم الثلاثة السرقة من عدد المحال التجارية ومن بين المحال التي أكدا السرقة منها هو ذاك المحل الذي سطوا عليه ليلاً وكسروا أقفال أبوابه واستولوا على ما به من مال هو عائد اليوم الفائت وبعض المقتنيات، بينما ثالثهم لم يدلي بشيء مما قيل بل استمر على جحوده ونفيه لذلك، فتطلب الأمر استكمال إجراءات أخرى تم إرجائها ليوم الغد نتيجة لتأخر الوقت والتي استكملت في صباح اليوم التالي، وقد اتخذ كل ذلك من غير تدخل مباشر من سهم الذي اكتفى بتوجيه زملائه بينهم أحد الضباط بالإجراءات الواجب اتخاذها، وقد كشفت هذه الإجراءات بما يدين الثلاثة في عدد من القضايا الأمر الذي دفع بالثالث إلى الاعتراف بمشاركة زميليه في ارتكابه السرقات بمعيتهما، وسعى سهم ورفاقه إلى استكمال الإجراءات ضد هؤلاء الماجنين الخارجين على القانون والنظام، فانهمرت المصائب كصيب من السماء على الثلاثة من بين مجموعها والتي كانت أشد وطئاً قضية همام وزوجه، فهم وزميليه الذين كانوا يوماً بل أياماً مما مر عليهم من العمر من أصحاب القلوب الغلف الذين طالما خرقوا القانون ها هم اليوم بانتظار أن يسوموا عقابهم المنتظر، فقد تكالبت عليهم القضايا التي سبق وارتكبوها حيث تم الكشف عنها وكان أول العقاب إدانتهم بقضية المخدرات، وهو عقاب كفيل بإبقائهم على غير حريتهم وسجيتهم محفوظين بعيداً عن أذية المجتمع لسنوات مقبلة، فيبدو أن الجرم جسيم لاشك وإلا لما تم إدانتهم بخمس سنوات نافذة من العقوبة السالبة للحرية، فرغم الطعن في الحكم إلا أن رفض الموضوع كان هو نصيبهم منه وحيث استنفذ محامي الدفاع الذي عينته المحكمة للمتهمين كل إجراءات مراحل لتقاضي دون أن يجد أي قبول في تخفيف الحكم فما على المتهمين الآن إلا تنفيذ عقوبتهم، ليبقى بانتظارهم عدد أربع عشرة قضية سرقة ست منها مصنفة بالجرم الجسيم والباقي منها تعرف بالعادية، ذلك إضافة إلى قضيتهم الرئيسية التي كانت سبباً بالإيقاع بهم في القضايا الأخيرة التي سجلت ضدهم، وخلال هذه الفترة وفي أيام متقاربة ومتفاوتة كانت عائلتا شهم ونغم قد شهدتا وفاة آبائهما في الوقت الذي كان فيه فهم يقبع بين جدران السجن، ومن جانب آخر حظي سهم وطاقم العمل بتكريم رؤسائهم لهم نتيجة الجهود التي قدموها في جل الأعمال التي تم الكشف عنها عن طريقهم والتي كان من بينها القضايا المكتشفة والمسجلة ضد فهم وزميليه، وفي الفترة ذاتها يرتقي سهم سلّماً وظيفياً آخر في عمله بحصوله على ترقية جديدة إذاً لعله جهد المجتهدين الذين لا تضيع أعمالهم المخلصة سدىً ففي آن حظي بالتكريم ومنح الترقية.
ويتم استدعاء فهم ورفيقيْه للمثول أمام القاضي في عدد أربع قضايا سرقات دمجت في قضية واحدة وجلسة بعد الأخرى فكان نصيبهم فيها سبع سنوات سجن نافذ منها خمس سنوات وستة أشهر ووقف باقي المدة، ويمر أسبوع من الزمن ويتم استدعائهم في قضية أخرى ويحظون فيها بالسجن لمدة ثمانية عشر شهراً، ثم يتوالى استدعائهم في بقية القضايا والبالغ إجمالها تسع قضايا ورغم دمج خمس منها في قضية واحدة إلا أنهم أدينوا في جميعها بالسجن النافذ لمدة إجمالية قدرها سبع سنوات مع إلزامهم بإعادة ما سرقوه أو قيمته في جميع القضايا ولتكون بذلك المحصلة الإجمالية للعقوبة السالبة للحرية تسع عشرة سنة لم يقضوا من أي منها بعد أي يوم نتيجة حبس تيّم في قضية المخدرات التي ضبط لأجلها من قبل وإبقاء فهم ونجم قيد الحبس الاحتياطي في قضية همام وهيام، وبينما همام متوجساً خيفة من نية أسرة فهم نظراً لمكانة والده الوظيفية والاجتماعية واتساع رقعة معارفه وأصدقائه وربما نفوذه وقوّة تأثيره على مسار القضية وقد يكون همام هنا محقاً بارتيابه في شهم وفقاً لما بدر ويبدر منه من تصرفات، ولكنه لم يستثنِ من هذه الظنون السلبية سهم الأمين والمخلص لعمله فحسب فهمه أن هذا الضابط شقيق فهم وهو على بينة كاملة بتفاصيل القضية وقد يكون بذلك يستغل بعض الثغرات لصالح أخيه المجرم، لكنه ورغم مخاوفه وظنونه هذه قرر ذات صباح التوجه إلى جهة عمل سهم ربما كنوع من تحسس الوضع معه عن القضية مغلفاً زيارته باستفساره عن سبب تأخر تحديد موعداً لجلسة التقاضي وحين وصل همام مكتب سهم تبادل معه السلام واستقبله خير استقبال ورحب به خير ترحيب وجلسا معاً وناقش همام سهم عن سبب تأخير النظر في القضية من قبل المحكمة فرد عليه بأنهم ينتظرون أيضاً مثله موعد ذلك مرجحاً أن يكون سبب التأخير هو حلول فترة الصيف والتي في العادة تكون فيها إجازة قضائية باستثناء بقاء بعض القضاة للبت في الأمور المستعجلة والقضايا البسيطة، وانتهت المقابلة بينهما دون أن يستشف همام ما يثير الشك والريبة في سهم نحو القضية بل هو من وجهه لجهة التحقيق أو المحكمة للتأكد من مسار قضيته فاستأذنه بالمغادرة.
وتمر الأيام وكلاً في متابعة شئونه وأعماله وأموره والعمل على توفير متطلبات حياته بينما فهم وزميليه في محبسهم بانتظار ما سيقرره القضاء بشأنهم في قضية اعتدائهم على همام وزوجه، حتى صباح ذات يوم صلدا وقد أخذت حرارة الصيف في الانحسار التدريجي إذ يتسلّم المختصون بجهة عمل سهم أوراقاً تتعلق بتحديد موعداً لنظر قضية هيام وهمام والمتهمين والشهود الذي من بينهم السائح الأجنبي والذي كان قد وجد الزوجين ليلة الاعتداء عليهما والذي تم اعتماد شهادته قضائياً بتاريخ سابق تقديراً لظروف إقامته المؤقتة في البلد كسائح رحال، حيث تضمنت تلكم الأوراق الأمر بتأمين حضور كافة الأطراف لجلسة المحاكمة بالتاريخ المحدد، فاتخذت ضمانات تبليغهم وتأمين إحضار المتهمين من محبسهم إلى مقر التقاضي في اليوم المحدد وقد كانت المدة كافية جداً لهذه الضمانات حتى موعد جلسة المحاكمة، وخلال هذه الفترة طلب شهم إلى ابنه سهم زيارة همام في منزله فاعتذر الابن عن تلبية طلب والده بمرافقته واهماً إياه بارتباطه ببعض الأعمال المهمة بجهة عمله وحقيقة ذلك هو ارتياب سهم من توجهات أبيه في ما يخص قضية فهم وهمام ولذلك آثر النأي بنفسه عن مثل هذه المواقف متجنباً بذلك في الوقت عينه احتمالية شكوى همام ضده سواء أمام رؤسائه أو لدى السلطات القضائية نتيجة هذه التصرفات والزيارات واللقاءات المشوبة بالريبة والشك التي تبدر من والده في الأوقات الحرجة من القضية خاصة، فقرر الأب القيام منفرداً بهذه الزيارة بعد طلب وجهه لهمام المتوجس منه منذ السابق لما يراه يبدر منه لا سيما في أوقات ساعات الصفر من تواقيت ومواعيد القضية مما ضاعف في نفس همام معيار الشكوك بشأن ما قد تضمره هذه الأسرة له من حيث الضغط الغير مباشر عليه بما يتعلق بتنازله وزوجه عن حقهما من فهم ورفيقيْه ولو بمقابل من المال فهذا هو ما يدور في خلد همام من مفهوم نتيجة هذه التصرفات كما هو ذات المفهوم لدى من يعرف عن هذا الأمر من أقارب وأصدقاء الزوجين، ولكن ورغم مخاوف همام إلا أنه أكرم ضيفه وقام بواجب ضيافته خير قيام فهو ضيفه وواجب عليه إكرامه كطبيعة متأصلة وعادات متبعة في هذا المجتمع الأصيل بصرف النظر عن الخلاف وما يسفر عنه من نتائج متخذاً من ذلك أن لكل حادث حديث في وقته وحينه وسيكون لكل فعل ردة فعل فهو أيضاً بانتظار القول المباشر من شهم حتى يكون قوله كذلك مساوياً له ومعاكساً في المسار لا شك في هذا فيبدو أن همام عصيّ على كل المساومات المتعلقة بقضيته التي لا مجال لديه لجعلها عرضة لأية مساومات ومن قبل أي كان فهو أعلم بحجم الجرم الذي تعرضت له هيام وما تلقاه هو من أذى وما تعرض له كلاهما من ضرر، ولكن ما يحير همام هنا هو تواضع وحسن الخلق وطيب المعشر الذي فسره واعتبره كنوع من الهدوء الذي يسبق العاصفة فرغم هذا التعامل الحسن من شهم إلا أنه لم يلوح له شيئاً مما يظنه ويتوجس منه لكنه لا يتوسم من هذا التقرب المبطن بطيب القلب والنفس خيراً، وهو كذلك لا ريب فتصرفات الرجل برهنها نجله سهم أيضاً وهو الأقرب إليه فقد وجد في تصرفاته ما يثير القلق والريبة نحوه فكيف والأمر متعلق بهمام وزوجه والقضية التي أقاماها ضد فهم وزميليه، وحتى هيام قد تغيرت نظرتها الإيجابية وموقفها من شهم وأسرته والتي كانت قبل فترة تطمئن زوجها من نيات شهم فقد بدأت تشكك هي الأخرى في تصرفه معهما لكنهما تأملا خيراً وتضرعا لله شكراً وحمداً وثناءً وأن يجعل العاقبة خيراً لهما، وحل اليوم الذي تم فيه تحديد أول جلسة لمحاكمة فهم وزميليْه في قضية همام وهيام، فحضر من حضر وأخذ سهم ركناً من قاعة المحكمة متوارياً عن البصر وافتتحت الجلسة وبدأ الحوار واستمر ودار النقاش وكلٌ أدلى بدلوه وزأر، فذاك نهر وهذا زجر، وكان شهم بين ممن حضر فتبوأ صدر المكان واستمع ونظر، ثم طلب الإذن بالكلام فسمح له وبذلك أُمر فتحدث قائلاً.