2024
Adsense
مقالات صحفية

شذرات من المجتمع .. (الجزء الأول)

عبدالله بن حمدان الفارسي

زمان كانت المدن الخليجية، وفي القرى وفي الحارات، أو كما يطلق عليها في بعض المدن حسب اللهجة الدارجة المحلية ( الفريج ) جمع فرجان، كان النمط السهل والبساطة في التعامل السلوكي الرائعان فيما بين أهلها، تلك العادات التي قلما نلمسها في حاضرنا كالألفة والتكافل الاجتماعي والتسامح العفوي والاحترام المتبادل بين أفراد المجتمع، وكانت وتيرة الحياة اليومية فيها تغلب عليها البساطة الفطرية، حيث النشاط العفوي الذي يدب في أهل تلك المناطق مع سماع أذان الفجر مصاحبا له صياح الديكة الذي بالكاد يسمع الآن في المناطق الحضرية بتخلي الناس عن تربية الدواجن في حظائر منازلهم؛ لأسباب عدة منها البناء العمراني من حيث عدم ملاءمته لهذا الغرض.

لا ننكر أن للتقدم الحضاري والتطور الفكري دور فاعل لخدمة البشرية والحياة بشكل عام، تلك الآفاق المتواكبة والمتسارعة من شأنها جزما تحسين وتطوير المسلك والمنهج الذي لا ريب فيه يصب في بوتقة الصالح العام من ناحية الإصلاح، منها الصحة الجسدية والعقلية للإنسان، وكذلك بتحسين الوسائل التي تقدم له الراحة والرفاهية، ولكنها بالمقابل قللت من خدمة العوامل النفسية لديه وابتعاده نوعا ما عن الانتماء المجتمعي، حيث من الملاحظ أنه أصبح أكثر واقعية وفاعلية من ناحية التطور العلمي والمعرفي لإفرازات الحياة العصرية المختلفة، وتتبع تسارع خطواتها التي تأتي كل يوم بالجديد غير المتوقع، وأعيد وأكرر فما كان ذلك إلا على حساب عدم الانغماس والاندماج في الحياة الفطرية والانخراط في العالم الأسري والمجتمعي الذي يعيش فيه.

كنا مجتمعات متماسكة ومترابطة تعرف وجع جارك دون أن يشكوه، وتطلع على احتياجاته ورغباته دون أن يبديها، وما تأتّى ذلك إلا من خلال صدق المشاعر وصفاء القلوب بين الناس، وكأنهم يعيشون تحت منزل واحد، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) رواه مسلم، الآن كما نشاهد ونسمع فهناك من التفكك الأسري لا حصر له، والتباعد المعيشي بين أفراد الأسرة الواحدة أمر اعتادت عليه الناس ولا غرابة منه، ومن المشاهد التي تمثل الواقع الحقيقي لذلك، أجساد تعيش تحت سقف واحد، وفي ذات الوقت تجد القلوب في رحلات محلقة ومختلفة في آن واحد، وكذلك العقول بوصلة توجهاتها لا تشير لاتجاه واحد كلٌ يسير عكس اتجاه الآخر، فالرابط الذي يجمع بين تلك الأجساد تحت ذلك السقف هو رابط القربى والنسب ليس أكثر .

الآن بتواجد الأحياء والمجمعات السكنية الحديثة، والتي تتوفر فيها كافة سبل الرفاهية الحديثة، فقدنا فيها الكثير من الانسجام العاطفي بين الأفراد، قلت الزيارات والتداخل بين الأسر المتجاورة، وباتت نظرتك لجارك محرمة، والسلام عليه جرم لا يعاقب عليه القانون حتى الآن، ولكنه يثير الكثير من التساؤلات الذاتية لدى الطرف الآخر، أقلها لماذا نظر وتبسم لي وألقى التحية هل يعرفني؟! فعل يثير الريب في قلبه! وتيرة الحياة العصرية أفقدت النفوس فطرتها التي خلقت عليها، وصلت بنا الأمور متى ما قررت الذهاب لزيارة قريب وجب عليك مخابرته قبل ذلك، وتحديد موعد مسبق وإلا فإن زيارتك المفاجئة له تعتبر تخلف وتدخل وتطفل غير مباشر للاطلاع على خصوصياته في منزله، ولو أخذنا الأمر بالنية الحسنة وتم التخابر معه مسبقا يخلق معه حالة من الاستنفار الطاري، لتحضير وتهيئة المكان الذي يرغب في استقبالك فيه، وتوفير اللوازم التي تليق به قبل أن تكون لائقة بك كضيف، في طلب مبطن لنقل صورة رائعة عنه في كيفية حسن الاستقبال ومكان إكرام الضيف، بمعنى آخر وصريح (التباهي).

الأمر مؤسف جدا عند ارتيادك الأسواق للتبضع أو لأشياء أخرى، في بلدك أو البلدان الشقيقة، قلما تجد الباعة من المحليين وإن كانت المعروضات وطنية، تجد من يقف على رأسها عمالة وافدة يتحكمون في سبل عرضها وأسعارها، ليشعروك في ذات الوقت بأنك أجنبي في بلدك أو البلدان التي تنتمي لها من حيث القربى وصلة الرحم وعلاقات النسب، كذلك يلقون في عقلك بأنهم أكثر معرفة ودراية بها منك، وأيضا من الأمور المؤسفة والتي تشعرك بالاحتقان الفكري والنفسي، إن لم نبالغ في الجزم والتأكيد عليه هو عدم وجود العنصر الوطني في تلك الأسواق لا بائعا ولا مشتريا، لو لم تكن متيقنا من هوية بلدك الموجود فيها أو الزائر لها، لأقسمت أنك في بلد لا علاقة لك به من النواحي الأصولية ولا الاجتماعية.

لا ننكر وهذا أمر مهم بأن الحكومة تولي اهتماما غير اعتيادي في إبراز التراث الشعبي والموروثات ذات الصلة بالمجتمع المحلي، لتمكينها في نفوس النشء وشعوبها، إلا أن هناك حالة ما بين الجزر والمد هدفها دثر كل ما هو موروث أصيل ومأثور قديم، لخلق حالة من التوهان الفكري وعدم استقراره على ما هو له، وما هو عليه، حالة الجزر تلك تسحب معها كافة الإيجابيات ذات النفع العام للبلد وشعبه، أما حالة المد فهي عامل جلب ومد لكل ما هو دخيل ضار وسالب لمكونات البلد ومن ينتمي إليه، قال تعالى: “وخلقناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا” سورة الحجرات من الآية 13 لدى المفسرون تأويلات كثيرة حول معنى الآية، ولكن الأهم عندي هو الحفاظ على الهوية الوطنية، ونقائها من التدخلات أو الفطريات الضارة بالمجتمع، وذلك من خلال تسييس وتقنين ذلك (التعارف) حتى لا يكون فقدا للموروث والمأثور.

ليس بالضرورة العودة المطلقة إلى ذلك الزمن، الذي يشنف مسامعنا صياح الديك فيه فجرا، وإن كان الأمر ليس فيه إخلال للإيجابيات والسلوكيات الحميدة المختلفة، إلا أن التطور والتماشي مع أنماط الحياة العصرية المتسارعة أمرا حتميا، يفرضه علينا الواقع العصري، ولا يجب نكرانه أو التنكر منه، ولكن التكيف معه وفيه بما لا يكون فيه ضررا على سلامة ونقاء الفطرة التي خلقنا الله عليها، ولا يكون أيضا هادما ومدمرا للأخلاقيات والسلوكيات والعلاقات الإنسانية، يظل الشعور الإنساني والأخلاقي والحفاظ على مدخرات العصر الجميل من حيث الألفة وسماحة النفس ودماثة الخلق وطيب المعشر وحسن الجيرة وعدم التدخل في شؤون الآخر إلا بما يشعره بأنك معه وليس ضده، مطلب ضروري بتطوير أسواقنا بما يناسب والعصر الحديث ومتطلباته، ولكن حسب ما يعيد لبلدنا ولنا هويتنا الأصلية بأن يكون للبائع دور بوجوده في موقع رزقه الأصلي أينما كان وكيفما كان، ومما لا يدع مكانا للدخيل فيما عدا المستثنى من المعروضات التي لا تتوفر في البلد، كذلك المتبضع يجب عليه أن يثني على البضائع المحلية أكثر من غيرها دافعا ومحفزا لها ولبائعها، وعلى الجهات المختصة توفير الأماكن ذات الجذب وتأهيلها وتحسينها من حيث كل ما من شأنه بأن يكون مناسبا للبائع أو للمرتاد محليا أو سائحا، وبهذا نجعل من المواطن واجهة نموذجية ومشرفة للوطن.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights