لطائف من كنوز المعارف
ماجد بن محمد بن ناصر الوهيبي
من عظم في قلبه حُبّ الله، هانت عليه الدنيا وما فيها ولم يكترث بعدها بأي شيء، وقد خلا من قلبه ما سوى الله. ومن لجأ للمُسبب هانت عليه الأسباب، ولانت له الصعاب، وتوالت عليه الأرزاق من كل باب، فهل يضيقُ رزق مخلوق وهو عبدٌ للمنعم الوهاب؟ كلّا وربي، ولكن كل شيء عنده بمقدار وحساب.
قال أحد أهل العلم لابنه:
اِعلم أن السكن في الدنيا يحتاج إلى فكر، والسكن في الجنة يحتاج إلى ذِكر، وقد شغلنا الفكر عن الذِكر، فإذا مضت عليك لحظات لم تذكر الله فيها فبادر إلى إيقاظ قلبك ولو بتسبيحة أو استغفار، فالغفلة داء، وذكر الله هو الدواء، فكلما طهر القلب رقّ، فإذا رقّ راق، وإذا راق ذاق، وإذا ذاق فاق، وإذا فاق اشتاق، وإذا اشتاق اجتهد، وإذا اجتهد هبّتْ عليه نسائم الجنة.
سُئل أحدهم: كيف تستعدّ لشهر رمضان؟ قال: أستعدّ له منذ شهر رجب، قيل له كيف؟ قال: أصوم من رجب أياماً قلائل متفرقات، ثم أصومُ معظم شعبان، فإن شقّ عليّ صُمتُ نصفه كاملاً، وأصبحتُ في نصفه الآخَر مفطراً، فهذا هو الزرع والغراس.
أرسل لي جاري العزيز وأستاذي يحيى الناعبي رسالة جاء فيها:
إذا أردت معرفة معادن مَن حولك، تعمّد الخطأ يوماً وستندهش من النتائج، فلا تنصدم، هذه هي معادن البشر، ذهب وخشب، نصمت لتسير حياتنا على ما يرام، فالناس لم تعد كما كانت نقية، فما كان مني إلا أن عاجلته بالرد وقد كان حاضراً: لا تقلق ولا تنزعج من تصرفات بعض البشر، ولا تبتئس بما يقولون، فاليوم يمدحون وغداً يذمّون، وكثيراً ما يطلبون، وعندما تكون في قمة العطاء، القليل منهم من يشكرون ويُقدّرون، وإذا عجزتَ عن العطاء لا يعذرون. هكذا هم البشر، الإصغاء إليهم كثيراً يفقدك صوابك وربما يوصلك للجنون، فردّ عليّ أستاذي: القلوب عند بعضها شيخي الحبيب.
ونُعت أحدهم بالجهل وبالإرهاب بعد أن شُهر به في وسائل التواصل الاجتماعي، وقد وضعت صورته وبعض كتاباته مع النعت المذكور، فلم يحرك ساكناً وقال في نفسه: من أنا ولو نُعِتُ بأقبح من هذا النعت، فماذا قيل في الله؟ وهو ربنا تعالى عما يقولُ الظالمون علوًا كبيراً، وقد خلقهم من العدم ورزقهم في البر والبحر وذلل لهم الأرض، وسخّر لهم السماء والدوابّ والطير، وآتاهم من كل شيء، قالوا عنه اتخذ صاحبة وولداً، وقالوا اتخذ من الملائكة إناثًاً ولم يشهدوا خلقهم، وقد قال ربنا في محكم التنزيل: {وقليل من عبادي الشكور} الآية 13 من سورة سبأ.
ولم يسلم منهم الأنبياء والرسل الكرام من النعوت والاتهامات الباطلة.
والعِلم لا يُتخذ لمباراة العلماء ولا لمماراة السفهاء، بل هو قربة لرب الأرض والسماء، وهو الذي في الأرض إلهٌ وفي السماء إلهٌ وله العزة والكبرياء، وتعرّض أحد العارفين لموقف في الحج في تلك العرصات الطاهرة وما يحدث هناك في كثير من الأحيان من تدافع للبشر وشدة في الزحام، فاصطدم هذا برجل آخر، فما كان من ذلك الرجل إلا أن قال له: هل أنت أعمى؟ قال العارف بالله: والله ما عرفني إلا أنت،.
وكنتُ أدخل على أحد الأولياء زائراً له في منزله بالوشل وقت الضحى وهو يعالج القروح التي بقدميه من أثر القيام بمرهمٍ علاجيّ، وكان يخفيه عندما أدخل عليه، حيث كان يستقبل الضيوف آنذاك بمكتبه في الصباح وحتى الظهر، وفي المساء كان يستقبلهم في المجلس، ذاك هو شيخي الوليّ سعيد بن حمد الحارثي رحمه الله وجمعنا به في الفردوس الأعلى، وأقول ختاماً: املأ قلبك بالرضا واستشعر اليقين وكن ممن يقوم الليل، فالليل سميرُ المحبين، ودأب الصالحين، وخلوة السالكين، وأنس المتهجدين، ومناجاة رب العالمين، وأنفق تفُز وتغنم، وترفّق ولا تبخل ولو بابتسامة، فنحن نفنى جميعاً، وأثر هذه الأعمال يبقى. وأحسِن الظنّ والتمس الأعذار واشترِ نفسك من الله تكن لك الجنة مع الحُور والولدان والأنهار.