مقال : لـ “5” دقائق فقط
أحمد بن سالم الفلاحي
أجزم أنه ليس من المستحيل أن يغمض أحدنا كلتي عينيه لمدة خمسة دقائق ليمتحن نفسه، أو يخرجها من محيطها المباشر الى عالم آخر مخفي عنه، يأتي بعدها ليعيد النظر في أشياء كثيرة حوله، ففي الخمس دقائق يمكنه أن يسافر الى أقصى ما وطئته قدماه قريبا أو بعيدا، أن يعيد ترتيب أشياء كثيرة في حياته ظلت مبعثرة لزمن طويل، أن تتسابق في تسلسل جميل مجموعة من الأفكار؛ ربما كانت مخفية عنه، أو متوارية بحكم تزاحم الأشياء المادية من حوله، يمكنه أن يقرأ عددا غير قليل من آيات الذكر الحكيم، أو يعيد قراءة إحدى معلقات شاعر العربية الكبير أبو الطيب المتنبي، والتي حفظها عن ظهر قلب إبان أيام المدرسة الرائعة، يمكنه أن يتصل بأحدى والديه، أو كليهما سواء وهما على قيد الحياة، أو أنهما غيبهما الموت، ففي الخمس دقائق هذه يمكن أن يعيش معهما لحظة المقايضات الكثيرة التي كانت تتم أثناء الأخذ والرد، فلان اذهب لإحضار كذا، لا لن أذهب إلا اذا اعطيتموني كذا، ويتصاعد الجدال بين الطرفين إلى تصل المسألة الى ذروة الإنفعال، في الخمس دقائق أيضا يمكن أن تستحضر لحظة زمنية معينة جمعتك بفلان وفلان، حيث أن أحدهما أو كلاهما يعيشان بعيدا عنك، وقد الهتهما الحياة والأسرة، ولم يعد في مخيلتك إلا طيفهما البديل عن الأجساد المادية.
المهم في هذه الحالة المنزوية (الـ “5” دقائق) دقائق يمكنك أن تعيش عوالم متخيلة في لحظتها وقد كانت واقعا قبل عشرات السنين، تذهب بك بعيدا عن واقعك الآن، وتعيد ترميم ذاكرة ظلت لفترات طويلة مغلقة عن أشياء جميلة في حياتنا، لم نستطع بحكم الاشتغال اليومي في الحياة، وإعادة استحضارها ولو للحظة يمكن أن تعيد ترميم علاقات جميلة وتعيد مسارات حياة يمكن أن تشكل نقلة نوعية في تجسير ما تم إهماله لسنوات عديدة، فالإنسانية مادة مرهفة تتشكل بمدى رغبتنا في تشكيلها، سلبا أو إيجابا، علوا أو نزولا، جمالا أو قبحا، رضى أو قنوطا، شكرا أو جحودا، اتساعا أو ضيقا، نورا أو ظلاما، لنا المساحات الطولى في كل ذلك، ولنا التصرف المطلق في كل ذلك، ولنا الإرادة الكاملة في كل ذلك، المهم أن نمنح أنفسنا فضائل (الـ “5” دقائق) نغمض خلالها عينينا في لحظة تفكر، أو لحظة إنزواء بعيدا عن صخب الحياة ليلا أو نهارا، على مسطحات الأسرة، أو على تقسيمات الأرائك، أو حتى تحت ظل شجرة اختارت أن تكون بعيدا عن زحف الجموع السائرة نحو البعيد.
تمارس الحياة علينا الكثير من القسوة، والحياة هنا مجموعة من الإشتغالات التي نقوم بها يوميا، فلا نفيق إلا والعمر قد انقضى، والصحة قد تضاءلت، والهمة قد خفقت، والسرور قد ترجل؛ ذلك لأننا ظلت أعيننا مشرعة نحو البعيد، نتجاوز القريب، وإن كان جميلا، ونرنوا ألى البعيد، ظنا منا أن مجمع الجمال كله، وانه موئل الخير كله، وأنه حقيقة الأشياء كلها، وأنه بغير الوصول إليه لا يمكن أن نلتحف بالسعادة، وأن ننعم بالسرور، ولذلك تظل أعيننا على اتساع بؤبؤها لا يغمض لها جفن، ولا تدمع لها مآقي، كأنها (حمر مستنفرة؛ فرت من قسورة) تخيف الناظر إليها، وترعب المتمعن فيها، فحقا حقا أن نمارس عليها سلطتنا ولو خلال (الـ “5” دقائق) حتى نستطيع إدراك ما يمكن إدراكه، “ما لا يدرك كله، لا يترك جله” فعيشوا هذه التجربة، واستشعروا أهميتها، وعوائدها، فلعل هناك رؤى أخرى غير حاضرة الآن؛ تأتيكم بمباهج كثيرة.