وقفات تربوية ٢ (صدى الكلمات)
ثريا بنت علي الربيعية
لا ريبَ أنّ الكلمة الطيبة مفتاح القلوب، فالكلمات لها أبعادها التي يتجدد بها الأمل والهمة؛ فضلا عن ذلك عمق صداها وأثرها، كما أنّ النفس الإنسانية تميل بفطرتها إلى سماع كلمات محملة بشعور التفاؤل والرضا، لا سيما في زمن جفت فيه الكثير من المشاعر، وانقطعت أواصر المودة والتواصل بين الناس بشكل ملحوظ، ومما لا شك فيه أن الكل قد يتعطّش لسماع الكلمة الطيبة التي تعيد له نضارته، وتُحرك كوامن الخير فيه؛ بغض النظر عن فارق العمر أو المنصب الوظيفي أو المكانة الإجتماعية؛ فهي حتمًا للصغير وكذا المسن، والمعلم والمتعلم على حد سواء، ولربما كلمات صادقة لم نلقِ لها بالًا منحناها لقريب منا أو عزيز علينا كفيلة بأن تصنع تغييرًا فارقًا في طريق أحدهم؛ فهي أشبه ما يكون كالغيث الذي يمطر النفوس أملًا، ويعيد إشراقة الروح، والشغف لمزيد من العمل والعطاء، وقد تخفف شيئًا من ثقل أحزانهم وتسر خواطرهم.
وما أصدق الوحي القرآني في بيان أثر الكلمة! كما قال الله عزوجل:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ}-[إبراهيم: 19]. وما وصفت الكلمة بهذا الوصف البليغ إلا لطيب أثرها؛ فكلماتنا تتأصل في القلوب كالشجرة الثابتة التي تُثمر أطايب الثمر، ناهيك عن أن حُسن الأدب وبلاغة الخطاب، يُحلي اللسان ويقوّم الطباع، ومن جهة أخرى فهي باب من أبواب الخير، ونشر ثقافة البِشْر والتيسير ولو بكلمةٍ لا تكلف شيئًا من الجهد، ولنتذكر قول رسولنا الصادق الأمين :” والكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ”-رواه البخاري.
في هذا المقام استوقفني قبل بضع أيام حديث دار بيني وبين ابنتي الصغيرة وهي عائدة من يومها الدراسي مبتهجة؛ لأجل كلمات ثناء وتعزيز لها في أحد المواقف الصفية، فبقيت طوال اليوم وهي تعيد عليّ ما حدث بعفوية الصغار ونقاء سريرتهم؛ حينها أدركت قيمة الكلمات -وإن كانت موجزة- بل البصمة التي تصوغها عبارات الامتنان على الطرف الآخر، فتشرح الصدر، وتُوثق وشائج المودة. وفي المقابل فإن سماع كلمات النقد المؤذي أو العتاب المتكرر يولد الإحباط والتخاذل؛ لذا لا بد من تجنب السخرية بالقول وتجريح الآخرين، والعناية بأساليب الاعتذار، وحسن العتاب، وإبداء النصح ، وعليه يرفع الله أقوامًا بحسن منطقهم وبيان كلماتهم، ويضعُ آخرين بسوء ردهم. ولا نبالغ في حكمنا أن أغلب حالات سوء التفاهم والمشاحنات بين الآخرين سببها عدم تخير الكلمات المناسبة.
بالطبع لكل مقام مقال، والمواقف المختلفة هي الغطاء الذي يكشف لنا شخصية الآخر وتوجهاته، وكما هو معلوم هنالك فرق شاسع بين التصريح المريح والتجريح، والعبرة في واقع الحال تكمُن في طريقة إدارتنا لكلماتنا بحكمة، والتعامل بأسلوب واعي مع عموم الناس تبعًا لمداركهم. وأحيانًا يكون الطرف الآخر محتاجا للإنصات أكثر من إبداء النصح له، وكما قال الإمام الشافعي -رحمه الله-:” إن الرجل ليحدثني بالأمر أعرفه قبل أن تلده أمه، فأصغي إليه حتى ينتهي من حديثه، فأريه أني أسمعه لأول مرة”. فهذه النفوس العظيمة من السلف الصالح تربت على حسن الكلام والأدب، وملاطفتهم لمن دونهم من العلم. ومن المرجح أن لباقة ومهارة التواصل، وحسن بيان المتكلم لدليل واضح على سعة علمه وثقافته.
ختامًا: ما أجمل أن يكون الإنسان حريصًا على إنتقاء أجود الكلمات لينثرها ودًا، يأسر بها المستمع، حبذا لو يحتسب في نيته الأجر العظيم، ولعل خير الرزق أن يمتلك أحدنا حُسن الحديث، وبلاغة اللسان التي يدعم بها محتاجًا، ويقيم بها سلوكًا. ولا مناص من القول: بأن لغتنا العربية تجمع من المفردات الطيبة ما يغني عن كلمات الفحش والسباب التي نسمعها في الآونة الأخيرة من الناشئة، ولعلها نتاج ما يسمعونه ويرددونه دون تهذيب أو وعي. وفي واقعنا أصبح من الضروري التركيز على أساليب تربوية تعلّم الصغار المجادلة بالتي هي أحسن، والحوار الهادف مع والديهم، ومعلميهم، ومجتمعهم.