الخميس: 31 أكتوبر 2024م - العدد رقم 2308
Adsense
مقالات صحفية

الأبوّة “ماهيّة وتكويناً”

د. سعود ساطي السويهري
أخصائي أول نفسي

من الخطأ ربط الأبوة بمفهوم الوصاية والولاية فقط، فهناك اعتقادٌ سائدٌ بأن الأب لا يسهم في حياة أبنائه إلا قليلاً، وأنَّ أيّة بادرة أبوية يمكن أن يظهرها الرجل هي مهارة مكتسَبة أكثر منها غريزة أبوية فطرية.

إلا أن حياة الأب تتغير بمجرد قدوم طفله الأول، كما المرأة تماماً، ولطالما اهتمت الدراسات بدراسة كيفية تأثير مكانة الأمومة motherhood مع خبرة الإنجاب على النساء بشكل تفصيليّ، ولم نكن نعرف حتى وقت قريب ما الذي تحدثه خبرة الإنجاب على الرجال؟ من هنا كانت أهمية التطرق لهذا الموضوع الحيويّ، الذي لم يتطرق له الكثير من علماء النفس.

وبحسب مارجريت كير Margaret Kerr الاختصاصية النفسية بجامعة ويسكونسن ماديسون، فإن الخبرات الانفعالية للآباء تفيد بأن الرضا العام عن الحياة لدى بعض الآباء يتناقص مع وجود الأبناء، في حين يلاحظ لدى آباء آخرين ارتفاع شديد في معامل الرضا عن الحياة، ويبقى بعض الآباء في حالة من الحياد الانفعالي”.

وفي السنوات الأخيرة ظهرت نتائج دراسات كثيرة تصف وتفسّر التأثيرات البيولوجية والنفسية للأبوة؛ ورسم صورة واضحة وقابلة للقياس للتغيرات الفسيولوجية وترتيب الأولويات التي يخبرها الرجال عندما يصبحون آباءً، كما ظهر بأن الأبوة حالةٌ وجودية ومكانة إنسانية مزمنة؛ تستلزم وصفاً وتفسيراً. فالأبوة مهمة صعبة تتطلب العطاء الدائم والمرونة واللياقة، وسرعة بديهة، وقدرة على استيعاب الأمور واتخاذ القرارات. كما أنها تكتيك ونظام يُتّبع في التعامل مع الأبناء.

وقد أكّدت الدراسات ظهور تغيرات هرمونية ودماغية كالتي تظهر لدى الأمهات الجديدات عند الآباء أيضاً، إذ يؤدي الانخفاض الحتميّ في هرمون التستوستيرون والتغييرات في مستويات الأوكسيتوسين إلى تهيئة الرجل ليكون والداً حساساً ومتجاوباً، منتبهاً إلى احتياجات طفله، ومستعداً لخلق رابطة عاطفية معه؛ وبالتالي فلا يمكننا القول أن الأمومة غريزة فطرية والأبوة عاطفة مكتسبة؛ ومع انخفاض هرمون التستوستيرون لدى الرجل، يزداد إفراز هرمون الدوبامين، وهذا يعني أنَّه يحصل على أجمل المكافآت العصبية الكيميائية كلما تفاعل مع طفله. إضافةً إلى أنَّ تكوينه الدماغي يتغير في المناطق التي تؤثر في المشاعر الأبوية داخله، فنلاحظ ازدياد المواد الرمادية والبيضاء في المناطق المرتبطة بالعاطفة، والرعاية.

وهناك عدّة أنماط من الأبوة، أبرزها:
1. نمط الأبوة الموثوق: إن الآباء الموثوقون حازمون مع أطفالهم، لكنهم مانحون جيدون للدفء في نفس الوقت. فالأسلوب الموثوق يعتمد على وضع قواعد معيّنة للأبناء، مع إتاحة الفرصة لهم للمناقشة والاستدلال. فهو اتصال ثنائي الاتجاه.
2. نمط الأبوة السلطوي: تجد الآباء الذين يتبنون هذا الأسلوب يمارسون سيطرة شديدة على أطفالهم، ولا يمنحونهم الدفء الكافي، فهم يطورون نظاماً للعقوبات من أجل تصحيح أيّ سلوك غير مرغوب، وعادة ما يرون معاملتهم لأبنائهم على أنها حبّ قاسٍ، هذا النمط من الأبوة مُقيد ويجعل الأطفال خاشعين أو متمردين.
3. نمط الأبوة المتساهل: إن الآباء من هذا النمط لا يطلبون الكثير من أطفالهم، ويواجهون صعوبة في قول لا لأبنائهم؛ بسبب الخوف من استيائهم، ولا يكونون مؤثرين في جوانب صنع القرار في حياة أبنائهم؛ وبالتالي يتخذ الأطفال العديد من القرارات المهمة بمفردهم ولا يدركون مفهوم العواقب.
4. نمط الأبوة المهملة: الآباء من هذا النمط يميلون إلى الانشغال بحياتهم الخاصة، أو التركيز على الذات فقط، وهم ليسوا دافئين وليس لديهم أية مطالب من أبناءهم، ولا يشاركون في أمور أطفالهم، ولا يتفاعلون معهم إلا إذا لزم الأمر.

وهنا يجب القول بأن دور الأبوة هو في غاية الأهمية، حيث تساهم في تكوين شخصية الطفل كما الأمومة تماماً، ومع أنه لا يوجد أسلوب تربوي أمثل متفَق عليه من قِبل المختصين؛ إلا أن الرأي التخصصي السائد يقول إن نمط الأبوة الموثوق هو الأكثر توازناً، ويؤدي لبناء علاقة صحية وتربوية مع الأبناء.

لذا يمكن القول بأن للأب دور جوهري في حياة أبنائه، فهو من يمثل السلطة داخل الأسرة من حيث إعداد التوازن في عملية التنشئة الأسرية، وهو من يوفر الأمن النفسي لأبنائه، وهو بمثابة القدوة والسلوك القويم، ويقوّم الأخطاء التي يقع فيها الأبناء، ويُعتبر دوره مهماً ومكملاً لدور الأم، وإذا ما غاب الأب عن الأسرة لفترة طويلة فإن ما يقوم به من دور وما يمثله من نموذج يكون غائباً عن أبنائه؛ وبالتالي فإن لغياب الأب عن أبنائه آثارٌ نفسية سلبية على سلوك وشخصية الأبناء.

وختاماً، نؤكد على أن وجود الأب مهم جداً في حياة أطفاله، فدوره أعمق بكثير من مجرد الصرف أو العقاب والتخويف، بل هو عنصر فاعل في تشكيل شخصية طفله، وهو مسؤولٌ كالأم تماماً عن ترك أثر إيجابي على المدى الطويل في حياة أبنائه.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights