نصف قلب ..
بلقيس البوسعيدية
إذا كان نصف قلبي هنا، فإن نصفه الآخر في فلسطين، مع الجرحى والجوعى والعطشى، واليتامى والثكالى والنازحين، وفي كل مرة يتحدث فيها نازحٌ أو جريحٌ عبر الهاتف أو على شاشة التلفاز عن حكايته المؤلمة، عن فواجع الحرب وجرائم الاحتلال، عن حكاياتٍ بيضاء لقلوبٍ صغيرة ماتت في صمت الأرحام قبل أن تصرخ في وجه العالم صرخة الحياة، وعن قلبٍ معذَّب في صدر طفلٍ عالقٍ بين الحياة والموت.
وعن آخِر قطرة ماء نظيفة، ورشفة دواء شافية، وطعام شهيّ، وعن آخِر مصباحٍ أضاء ظُلمة بيتٍ مكسور النوافذ ومخلوع الأسقف والأبواب، عن ذكريات الراحلين وأحلامهم الغافية في ضِيق اللحود، وذكريات الحبّ والوداعات الأخيرة قبل الموت، عن آخر قُبلةٍ طويلة لشفاهٍ مصبوغة بالتراب والرماد، وآخِر سقوطٍ لدمعةٍ مقهورة على جبين ميّت.
وآخِر زهرةٍ غُرست على قبر ميت مجهول، وعن آخر خطوات ثائرة لساقٍ مكسورة، وآخر نظرةٍ وديعة لعيون مفقوعة، وآخر عناقٍ حميم لذراعٍ مبتورة، وعن آخر ضوء منبعث من جسدٍ مليءٍ بالثقوب والندوب؛ ينقبض قلبي وتضيق أنفاسي وأشعر كما لو أنني أعيش هناك بينهم، بذراع مخلوعة وساقٍ مبتورة وعين معصوبة وقلب جريح وروح حائرة هائمة، كثيراً ما أتخيل نفسي مدفونة تحت الركام، متفتتة الخلايا ومكسورة العظام.
أئنُّ من شدة الوجع، وأصرخ وأنادي ملء حنجرتي وما من مجيب سوى صدى صرخاتي الخائبة، وعندما يشهق الأطفال في رقادهم وتفترس الكوابيس أحلامهم ويمس البرد دفء أجسادهم، عندما يهطل المطر وتفيض الملاجئ بدموع الأمهات وأنين الصغار، وعندما يعود الآباء إلى أولادهم في الخيام فارغي الأمل والأيادي؛ يغرق قلبي بدموعي، يغرق وأنا لا أملك ما أقدمه لشعب ينادي: “هل من مغيث؟” غير الدعاء.