2024
Adsense
مقالات صحفية

طفلة العاشرة من العمر ..

بلقيس البوسعيدية

اكتشفتُ حقيقة زوج أبي وأنا طفلة في العاشرة من العمر، حينما خلعتُ أقنعتها واحد تلو الآخر، وكشفتُ عن سواد قلبها في غياب أبي، وألصقتْ بي من فرط الدناءة تهم باطلة، واعتدت عليّ بالضرب المبرح أمام ناظري أمي الصماء عن سماع صوت شهقاتي، وصرخات استغاثتي، من لا تملك شرف الدفاع عن ابنتها الوحيدة والصغيرة جدا على خوض معارك طاحنة كتلك.

أساءت إليّ زوج أبي بالقول والفعل إلا إنني لم أستطع أن أبادلها الكراهية، لم أشك عنفها وموت ضميرها لأبي؛ بل اكتفيتُ بالسكوت والامتثال لرغباتها السامة. كنت طفلة وحيدة وخائفة، لا أملك رفاهية البوح عما يختلج بداخلي من أحاسيس ومشاعر حارقة. كنت أبك، وأصرخ، وأرتق جروحي الغائرة في حلكة الليالي الموحشة دون أن تسقط دمعة واحدة من عيني الغارقتين في الظلمات، كنت أتعذب بصمت مطبق؛ كي لا أوقظ الوحش النائم في جوف أبي، فما زال صوته الغاضب يتردد في أذني مثل جرس رفيع، حينما انتشلني ذات يوم من بركة دموعي، شادا إياي من ذراعي، قائلا بنبرة رجتني حتى النخاع: “اخرسي، هيا اخرسي أيتها الحمقاء”.

التذمر ممنوع، البكاء والغضب والشكوى والصراخ ممنوع أيضا في حضرة أبي؛ لذا حفاظا على نفسي الجريحة اكتفيت بالبقاء صامتة وهادئة مع تكرار مشاهد العنف التي أخرج منها برضوض عنيفة في الروح قبل الجسد، والتي غالبا ما أكون ضحيتها كوني طفلة لا تملك حق الدفاع عن نفسها؛ كنت أدخل في نوبة بكاء صامتة؛ في محاولة يائسة مني لتحرير روحي من وطأة الشعور بالرعب والعجز.

بسكوتي وشرودي الطويل ذاك؛ أضعت ملامح روحي البريئة وأصبحتُ نسخة أخرى من أمي: صماء بكماء مثل صخرة ملقاة في واد مهجور. كنت دائما على شفا الموت لكني لم أمت، بل كبرت وأصبحت مدركة لخطورة هدوئي وبرود ردود أفعالي تجاه الكم الهائل من الحقد والعنف من زوج أبي.

أحببت ملامحي وأنا أكبر، أحببت تلك الأحاسيس المضطرمة المنبعثة بخفة من دواخلي، وكان الزمن هو منقذي من كل تلك الفوضى التي كادت أن تؤدي بحياتي لولا لطف الله العلي القدير. رجوت من الأيام أن تركض بي سريعا؛ كي أكبر فتتسع مساحة هروبي أكثر فأكثر، وسريعا ما كبرت وأصبحت بارعة في اختراع أساليبي الخاصة للهرب من كل ذلك الجحيم الثائر والمتعطش للشرب من كرامتي قبل دمائي، كنت أهرب في خيالاتي للبعيد، فقط في خيالاتي أكون واحدة غيري، طفلة باسلة، حرة، ثائرة، جريئة، ومتمردة على ما هو غير منطقي، أروح أنتقم لنفسي وأدافع عنها، وأرفع صوتي، وأتصدى بشراسة وحوش الغابات كل من يفكر في أذيّتي، أجدني دائما في مواجهة حتمية مع أمي وزوج أبي، ففي تلك الخيالات المتعددة عاتبت أمي كثيرا وأنبتها على صمتها وسكوتها الطويل، وقتلت زوج أبي بأبشع الطرق ولمرات عديدة دون أن يرف لي شعور بالذنب أو الخوف، وذرفت الدموع على كتف أبي، وصرخت في وجهه بشدة وحطمت الأشياء دون تردد أو قلق من مصير مجهول، ولكني لا ألبث أن أعود إلى الواقع، فأجلس أتأمل الأحداث حولي لأرى حقيقتي الكاملة… طفلة في العاشرة من العمر، مكسورة، خائبة، وحيدة، وخائفة.

أول هروب لي في تاريخ طفولتي كان على مائدة الطعام المزدحمة بنظرات الكراهية، والهمسات السامة من زوج أبي، والتهكمات التي تلعب بمصيري وتحدث فجوة هائلة بيني وبين أمي، وتجعلني أنظر إلى أبي نظرة ضبابية غائمة تحيله إلى كتلة مهترئة من الجهل والغموض. لم أفهم أبي ولا أعلم إن كان قد أحبني كما أحب أخوتي من زوجه التي تخلو صفاتها من معاني بني الإنسان. قضيت نهارات طفولتي وحيدة في محاولة استيعاب الواقع واكتشاف نفسي بصورة أشمل وأوضح، أنتبذت بقلبي زاوية قصية وجعلت أفكر بجدية في مصيري المجهول واستمعت إلى الصوت الصارخ بداخلي، الرافض وبشدة للواقع البائس وللخيالات الجامحة التي لا تسمن ولا تغني. انعزلت في قوقعة محصنة، وكأنما هالة من الظلام أحاطت بي فحالت بيني وبين الناس من حولي، ولم يحدث حينها أن أفتقدني أحدهم أو سأل عني، وبدا أن أحد المآسي أنه لا أحد يفتقدني.
في عزلتي تلك استطعت أن أجمع شمل نفسي وأن أتصالح معها، منحتها الحب والأمان والاطمئنان الذي افتقدته وأنا أرجف خوفا بين أحضان أمي، وأنا أركض بحماس بريء تجاه أبي. أدركت بعدما استنزفتُ سنوات طفولتي في محاولة فهم ومعرفة ما أريده، وما أبحث عنه ليلا ونهارا، وعما تريده عيناي المتعبتان وقلبي المحروق بعذابات الخذلان، حقيقة أنني لا أجيد الكراهية، فكل الذين آذوني بشدة لم أكرههم؛ بل سامحتهم وأشبعتهم تجاهلا حتى تناسيت إساءتهم إلي. فهمت مع لحظة الإدراك الأولى أن الكراهية مضغة صغيرة تنمو في داخلنا يوما بعد يوم إلى أن تكبر فتصير كرة من نار قد تحرقنا قبل أن تحرق من أساء إلينا؛ لذا غفرت لأبي، وزوج أبي، ولأمي صمتها وبرودها، وسامحت الطفلة التي كنتها، بضعفها وعجزها وسكوتها وجهلها للكثير من الأمور التي كان من الممكن لها أن تصنع مني نسخة أفضل وأقوى مما أنا عليها اليوم.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights