تجار هذا الزمان!!
د. أحمد محمد الشربيني
عزيزي القارئ، عرفت التجار على أصناف، ولكل صنف سمات وأوصاف؛ فخذها بعين الفكر والإنصاف.
(١) فثمة تاجر مع الله: مكسبه من حلال، ومطعمه من حلال، ويتعفف عن المذلة والسؤال، ينفق ماله في الطاعة، ويجمل حياته بالزهد والقناعة, لا يلهيه البيع والشراء عن الذكر والدعاء، ولا تقعد به الحياة عن الآي والصلاة والصدقات والزكاة، أنيس الأتقياء وجليس الفقراء؛ يصدق فيه قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (١١) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢)}-[سورة الصف].
فهم رجال لا تغريهم الأموال وتبدل الأحوال، يخافون الآخرة، وقلوبهم دومًا طاهرة، وطاعاتهم يانعة حاضرة بقلوب ناضرة؛ قال تعالى:{رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ۙ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}-[النور:٣٧].
فحظهم موفور وفضلهم منشور؛ لأنهم يرجون من ربهم تجارة لن تبور، لا يخشون الفقر والإملاق، ولا يرجون إلا طاعة الواحد الخلاق؛ قال تعالى:
{إنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ”
لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ }-[فــاطر: ٢٩].
(٢) وثمة تجار المال وسدنة الأعمال، ومنهم الصالح والطالح والممسك والسانح، منهم من شغلته أمواله وعياله عن الطاعات والعبادات، وانساق وراء المضاربات والمناقصات والمشروعات، ذاهلاً عن الصلوات والصدقات؛ ويصدق فيه قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا ۚ قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ ۚ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)}-[الجمعة: ١١]. ومنهم من وازن بين الدنيا والدين، ولم يرضخ لسطوة المال اللعين وشهوة الملايين؛ فتراه بين الحين والحين يغشى مجالس الصالحين الذاكرين، وينخرط في ركاب المنفقين المتصدقين، ولا يذهل عن صلاة أو زكاة؛ فقلبه متصل بالله. فالأول يريد العاجلة والثاني يريد الآجلة وشتان بينهما؛ قال تعالى: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا (١٨) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا (١٩) كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ۚ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (٢٠)}-[الإسراء: ١٨-٢٠]
(٣) وثمة تجار الربا والرهان، عبيد الشيطان والخسران، يركضون وراء المال في عذاب، كالكلب الذي يجري في فلاة نحو سراب، يأكلون أموال الناس بالباطل والبهتان، ويحلفون بالدين وأغلظ الأيمان، وهم أناس لا عهد لهم ولا أمان؛ قال تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ۚ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}-[النساء: ٢٩]. فتراهم يتخبطون وفي كل واد يهيمون، فرحهم ساعة وندمهم إلى قيام الساعة، في الدنيا تذهب أموالهم ويفضح إفلاسهم، ويوم القيامة تسوّد وجوههم، وتنشر أعمالهم عقابًا من ربهم؛ قال تعالى:{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ۗ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ۚ فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ}-[ البقرة: ٢٧٥ – ٢٧٦]. فمثل هؤلاء المرابين ومن وقع في براثنهم من الطامعين كالأعمى الذي يقود المبصرين نحو الضياع والفوات، وكالشيخ حسني في فيلم “الكيت كات!!!”.
(٤)وثمة تجار العقول: ومنهم تجار الدين والإضلال؛ حيث الفتاوى السلطانية والخطب البهلوانية والأدعية التمثيلية، يتحصنون بدموع التماسيح وترانيم التسابيح، علمهم بضاعة، وفكرهم شماعة، وبطنهم بلاعة!!، فم يسبح ويد يذبح، صوت يصدح وفكر يجرح!!، ومنهم أبواق النفاق والتصفيق لكل شيطان صفيق وظالم عتيق، تراهم على الشاشة ليل نهار في برامج الأسمار؛ حيث الترويج والتعريض والإفك المريض، وخداع الجمهور العريض، منهم من يشبه كهنة الفراعين، ومنهم من يتصنع عصا موسى الأمين وهو في الحقيقة آفاق مبين ومدلس رصين!!، ومنهم تجار السفور والانحلال والخنا والدلال؛ يعاقرون المعاصي والذنوب، ويعانقون كل بغي لعوب، غايتهم السينما والراقصات، ومحرابهم الحانات والكبريهات، ومنهم تجار الأحلام والأماني العذاب، والتلاعب بأحلام الأطفال وأطماح الشباب، يكتبون خلاف ما يعتقدون، ويصدحون بما يزورون؛ وهؤلاء جميعًا مفسدون مضلون في كل واد يهيمون، وللعقول مفسدون مدمرون، وللأجيال مشوهون، وبالآمال متاجرون، ولم لا؛ وهم يعلون اللاعبين، ويلمعون الماجنين والفاجرين، ويسبحون بحمد المطربين الراقصين!!!، وتراهم يزدرون المصلحين المخبتين وينعتونهم بكل شَنيع مَهين!!!!؛ وجل هؤلاء المتاجرين صنو المنافقين، ويصدق فيهم قول رب العالمين: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}-[البقرة: ١٤].
(٥) وثمة تجار الأرواح: ومنهم كل جزار سفاح، يقتل بلا رحمة وسماح؛ ليتجر بالأعضاء البشرية، ولا يتوانى عن الجرائم الخفية، لا يرحم دموع طفل أو كهل، ولم لا؛ ودينه الجهل وأخلاق أبي جهل؟!!.
ومنهم تجار السموم المخدرة حيث الإيقاع بالشباب الحائرة الخائرة!!
ومنهم تجار الرقيق الأبيض؛ حيث شبكات الدعارة وتصيد أرباب الشهوات الفوارة في زقاق أو وكر أو عمارة أو قصر!!
(٦) وثمة تجار الوطن:
كمن يتكسبون من الآثار وأطلال الديار، ولا يعبأون بتاريخ الرواد وإرث الأجداد؛ بل شاغلهم الملايين لا وعي الأحفاد!!!
ومنهم تجار السياسة وأطماع السلطة والرئاسة؛ تراهم يتاجرون في الانتخابات، بضاعتهم الشعارات وصناديق الانتخابات، لا يتورعون عن شراء الأصوات والذمم من أجل المجلس والقمم ، ومنهم عملاء الوطنية أرباب الذمم الخفية، يبيعون أنفسهم للأعداء بكل أريحية ودهاء باسم الحرية العصماء؛ فيسبون بلادهم باسم الانتماء، ويخادعون شعبهم بمسوح الأتقياء، ويخونون ترابهم تحت لواء الأحرار الشرفاء؛ قبلتهم الدولار وأنيسهم المشروم والكافيار، يلهثون وراء الأبواق الفضائية والأطباق التركية والبنوك السويسرية، ولا يتورعون عن السقوط بمهانة في بئر الرذيلة والخيانة!!! وهؤلاء الأشقياء عماد الطابور الخامس في الخفاء لا يقلون خطرًا عن الجواسيس والعملاء؛ فهم مكمن الداء وأسنة الأعداء!!
تلك مراتب التجار ما بين منازل الأبرار ومعاطب الفجار؛ فهم جميعًا بين يدي الله موقوفون، وعما كسبت أيديهم محاسبون؛ قال تعالى:{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ۖ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ ۚ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ}.[الأنعام: ٩٤].
فتاجر مع الله ولا تكن عنه لاهيًا؛ تعش سعيدًا ناجيا؛ قال تعالى: {…وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}-[من آية: ١١١، التوبة]. صدق الله العظيم.