2024
Adsense
مقالات صحفية

شجرة الزيتون

     عائشة عبد الله عزازي

ها أنا ذا أخطّ سطوري هذه، ولكن، فجأةً ارتجفت يدي، وعجز لساني وقلمي، ووقفتُ حائرةً شاردةَ الذهن لوهلة، ثمّ وقفتُ حزينة مخاطبةً قلمي:

 ماذا بك يا قلمي؟ ما بك لا تكتب كما عهدتكَ من قبل؟ ففي جعبتي الكثير من الذكريات والآهات، ذكريات شجرة زيتون قديمة شامخة متأصلة بجذورها العميقة، ممتدة في فروعها

الخضراء اليانعة، وفي أغصانها التي تتراقص مع الرياح يميناً وشمالاً، تنعش القلب طرباً وسروراً، وتتلألأ أوراقها الخضراء الندية تحت خيوط أشعة الشمس، بأشعتها الذهبية الساطعة الزاهية، تتزين بحباتٍ خضراء وسوداء متدلية، جلستُ أستظلّ بها فشممتُ رائحة زيتها الزكية، وعبيرها الفوّاح، وفجأةً سمعتُ صوت بكاءٍ خافت، وآهاتٍ محمومة، فالتفتُّ يميناً ويساراً حتى أرى مصدر الصوت، لكني لم أجده، فتعجبتُ، هل أنا أحلم؟ أم إنه مجرد تخيلات من عقلي الباطن؟ ثم ما لبث أن عاد الصوت محموماً بعبرات منادياً:

 بنيّتي، اقتربي، أنا شجرة الزيتون، فاقتربتُ مستغربةً متعجبة متحيرة في آن واحد، فوجدتُ قطراتٍ من الدماء تسقط من الشجرة، ووضعت يدي بشكل حانٍ لعلّي أوقف نزيف تلك الشجرة ولكن دون جدوى، لم يتوقف النزيف، فرجعتُ مسرعةً لطلب المساعدة من أهلي وجيراني، فهبّوا هبّة رجل واحد لمساعدتي في إيقاف النزيف، لأن الشجرة كانت على وشك الذبول والموت والتحلل السريع في الأرض، وزاد الطين بلةً بهبوب رياح عاتيةً علينا لا نعرف لها مصدراً، وهي آتية من كل حدب وصوب، تزمجر بصوت مخيف كصوت ( الأسد) عندما يقترب الغرباء من عرينه، وبدأت تدور بشكل منتظم، تارةً يميناً وتارةً يساراً، فهي لم تأتِ عبثاً، لها هدف وهو اقتلاع شجرة الزيتون الأصيلة من عقر دارها، وحاولنا عبثاً الحيلولة بين الشجرة والرياح، فقد كسرت الكثير من أغصانها وفروعها وطارت الأوراق في كل الاتجاهات، وحبات الزيتون أخذت تتساقط الواحدة تلو الأخرى، وبدأ الخوف يتسرب رويداً رويداً إلى قلوبنا لأن الرياح ازدادت حدتها وعلى وشك اقتلاع الشجرة من جذورها المثبتة بالأرض، وبدأت قوانا تخور شيئاً فشيئاً.

 ارتفعت أبصارنا إلى السماء لعلّنا نجد بصيصاً من النور، وخرجت الأصوات تلهج بالدعاء إلى رب السماء لنجدتنا، فليس هناك مُعين إلا هو جلّ شأنه، فإذا بنا نشعر بقوة عجيبة تسري في أجسامنا، وشجرة الزيتون بدأت تعود إلى الوقوف شامخة من جديد، بالرغم من جراحها، وونبتت الأوراق والبراعم، وبدأت الرياح بصوتها الهادر المزمجر بالسكون، وقرص الشمس المتوهج يتوسط السماء الزرقاء بالرغم من وجود بعض الغيوم السوداء المتفرقة في أرجاء السماء، ما هو السر العجيب وراء كل هذا؟ إنه المدد الذي أرسله الله.

إخواني وأخواتي القرّاء الأعزاء:

آمل أن تكونوا بفطنتكم وحدسكم الكبير، قد عرفتم من هي شجرة الزيتون القديمة، إنها أرض الدحنون الأحمر، أرض المعراج، (سبحان الذي أسرى بعباده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى).

فكلماتي هذه إلى أوجهها إلى شعبي المشرد في أرجاء المعمورة هداهم الله وأصلحهم وسدد خطاهم، إلى بلدتي يافا عروس البحر المتوسط، إلى روح أجدادي رحمهم الله جميعاً، إلى جدي علي يا شجرة زيتون غائبة حاضرة، فهلّا سامحتني، فأنا لم أنفذ وصيتك لي ولإخواني، فنحن لم نستطع إعادة رفاتك الطاهر إلى بستانك الجميل، إلى شجرة الزيتون القديمة، إلى أرض كنعان فلسطين، لم تعد بعد يا جدي، ولكن الفرج قادم، والقناديل بدأت تضيء شيئاً فشيئاً، رغم قلة زيتها وفتيلها.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights