2024
Adsense
مقالات صحفية

من ذاكرة الطفولة .. موسم القيظ موسم رزق 

 سعيد بن خميس الهنداسي

مع بداية شهر مايو من كل عام يبدأ فصل الصيف بقوة، فحرارة الجوّ تأخذ في الارتفاع التدريجيّ حتى تصل إلى ملامسة أكثر من خمسة وأربعين درجة مئوية، إلا أن الأهالي ينتظرون هذا الفصل بأيامه ولياليه بشغف، فلكلّ منهم حكايات وقصص مرتبطة به، فهو موسم الخيرات والبركات، ويسمى محلياً بموسم “القيظ” موسم حصاد ثمار بعض أشجار الفاكهة الموسمية، مثل أشجار النخيل وغيرها من أشجار الفاكهة.

أذكر في بداية السبعينات من القرن الماضي وأنا طفل صغير، ارتبط موسم القيظ بمجموعة من العادات التي يمارسها المزارعون على مدى أيام الموسم، ويُعرف موسم القيظ بموسم رزق، وعائدٌ ماليّ لأصحاب المزارع من خلال “طناء النخيل” أي بيع محاصيل ثمار النخيل، للأشخاص الذين لا يملكون أشجار النخيل، ويودّون شراء الثمار، فإنهم يدفعون مقابلاً للحصول على الرطب ومن ثمّ التمر.

لذلك وجب الاستعداد لموسم الخير وشحذ الهمم، لتحقيق أكبر قدر استفادة منه، فقد تمّ الانتقال من بيوت البحر وإقامة بيوت مؤقتة بالمزارع حتى يكون الجميع قريباً من هذه الثروة، وليعيش الجميع خلال الموسم بين رحلتَي الليل والنهار اليومية، على مدى أربعة أشهر على غرار رحلتَي الشتاء والصيف السنوية، ففي الصباح الباكر نعود من سكنة بيوت البحر أو سكنة الليل “بالمهدن” مكاناً مرتفعاً بين الساحل والمزارع، يتميز بلطافة جوّه ليلاً، نعود سيراً على الأقدام، وننقل فرشنا وأغراضنا المهمة لبيوت القيظ، البيوت المنتقل إليها بالمزارع مؤقتاً خلال الموسم.

وخلال لحظات تقوم الأمهات بإعداد القهوة والشاي مع وجبة إفطار بسيطة، وبعد تناولها نبدأ بتشكيل مجموعات عمل، فترية وروتينية فالفترية تهتم بخلابة النخلة والحدارة والتنبيت والخراف والجداة، وأما الروتينية فيختصّ بريّ النخيل والأشجار واللقاط، فيما يقوم البعض بتوفير أكل الحيوانات، بينما يحمل البعض “قفير” وعاءً أو سلةً مصنوعة من سعف النخيل، نضع فيها “اللقاط” وهو ما يتساقط من ثمار النخيل، وبعد امتلاء القفير نقوم بتغريغه “بالمسطاح”، المكان المخصص لتجفيف ثمار النخيل، وهو عبارة عن مجموعة “دعون” تفرش ومصنوعة من جريد النخيل، وعند الظهر يكون التعب قد وصل بنا إلى مداه، لما بذل من جهد في ذروة حرارة الجو، لنجد أنفسنا نسبح في وادٍ من العرق.

عندها يجتمع الجميع عند “الحوض” مكان تجميع المياه، والمخصص للسباحة، حيث نقوم بتشغيل “المكينة” مضخة مياه تعمل على سحب المياه من الآبار عن طريق وقود الديزل، وبكل عفوية نتسابق مع اندفاع المياه بالحوض لنرمي أنفسنا فيه ونسبح ونحن في فرح وسرور وبهجة، ثم نلعب قليلاً بعض الألعاب المرتبطة بالحوض والسباحة، مثل أجمل قفزة بالحوض، والأسرع بالسباحة، والاطول كتماً للنفس أثناء الغوص، والشخص الأكثر مهارة بالسباحة.

وبعد صلاة الظهر يتم غراف الغداء، ويجلس الجميع على سفرة واحدة ثم نرتاح قليلاً، وبعد صلاة العصر نشكّل مجموعات عمل مرة أخرى، لنكمل عملنا بجمع اللقاط وسقي أشجار النخيل وتوفير طعام الحيوانات، بالرغم من أننا نكون متعبين، إلا أن كل ذلك التعب يزول بعد أن نسبح بالحوض، ونلعب كما استمتعنا عند فترة الظهيرة، فيزول التعب بعد ما نقضي وقتاً جميلاً.

وعندما يحين وقت المغرب ننتقل من سكنة القيظ بالنخيل إلى بيوت البحر، سيراً على الاقدام، فالبعض يفضّل أن يتحرك قبل المغرب يحمل العَشاء والفرش إلى “المهدن” فيما البعض الآخر يفضّل أن ينتقل بعد صلاة المغرب وبعد تناول العَشاء، وخلال تواجدنا على المهدن أو في بيوتنا التي على البحر فيكون لدينا وقتاً بعد صلاة العشاء، حيث نقضيه باللعب مع الأصدقاء قليلاً فهناك ألعاباً كثيرة نلعبها، مثل الغموضى والسري وغيرهما، بينما البعض يفضّل الاستماع للحزاوي، وبعد ذلك ينام الجميع مستمتعين بقضاء يوم جميل كله نشاط وحركة وسرور، فهكذا ينتهي يومنا، فيا لها من أيام متعبة ومفرحة، عشناها بحلوها ومرّها.

 واليوم تبقى الذكريات الطيبة جزءً من حياتنا.

وفي نهاية الموسم فإن أصحاب المزارع يحصلون على عائدٍ مادّي جيد، بعد أن قضى فترة عناء وجهد واهتمام بكل جزئيات النخلة خلال عام زراعي كامل، فيغتنم أهل المزارع هذا الموسم ليعززوا من فرصة دخلهم، من خلال طنا النخيل وبيع الرطب، ثم بيع التمر وبيع “النفيعة” أي مخلفات التمر، والتي تُستخدم طعاماً للحيوانات، وكذلك بيع العسل وبيع الدعون، ويودّع المزارعون الموسم على أمل عودته بسرعة، فهو مصدر دخلهم الاساسي.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights