من ذاكرة الطفولة .. سفر الوالد بطيران الخليج في الستينيات
سعيد بن خميس الهنداسي
ضمن ذكرياتي في نهاية عام ١٩٧١م، وانا في السادسة من عمري، أذكر أنه جاء الخويرات حميد ابن العم عبدالله ماشياً من الغليل، قال: البارحة وصل العم راشد من السفر، ويريد أن يراك ويسلم عليك، وهو مشتاق لك كثيراً، انطلقنا إلى الغليل نجري مروراً بالحجيرة وبعد لحظات وصلنا.
وأذكر أن البيت كان من السعف عبارة عن عرشان، وقد شُيّد على “المهدن” في مكان مرتفع على آثار بقايا شيء من الطين، وقريب من “البرج أو الجنز” أو ما يسمى بالغرفة، بينما العم راشد لم يستطع الانتظار في داخل البيت. وأذكر أنني التقيتُ به خارج البيت من الجهة الشمالية حيث احتضنني وأخذ يبكي لدقائق، وكنت لا أدرك لماذا يبكي، وأقول في نفسي:
لم يسبق لي أن رأيته من قبل، وكنت مندهشاً من هذا الموقف، إلا أن مشاعره كانت تختلط بين الفرح والحزن، فإذا به يسترجع الأيام والسنين والمشاهد القديمة، ويتمتم بكلمات يحدّث بها نفسه، ومرّة يرفع صوته بها.
ويستذكر ويقول: ليت الأيام تعود بنا إلى آخر يوم وادعنا فيه خميس بهذا المكان، فيوم سفره كان يوماً عصيباً وحزيناً، وقد هاجت فيه المشاعر في موجة من الكآبة والهموم والحزن، على الأسرة والأهل بالغليل، وأذكر أن عبد الله بن شنين جاء من الخويرات ليسلّم عليهم بعد أن مرّ ببيت أخته سليمة بنت زايد، وهذا والدنا علي بن مكتوم يودّع أبناءه وهو يبكي ويدعو بأن يحفظهم الله ويوصلهم سالمين، بينما الحزن يخيّم على الجميع، ويسود وجهوههم الوجوم، ولمّا حان موعد تحرُّك السيارة سلّم خميس وعبد الله على الجميع، وطلب خميس منهم الحل والبريان، والدموع تتساقط من أعينهم، فقد أصاب الحزن مشاعرهم والكلام والعبارات لم تعد تُعبّر عن أحزان روحهم وآلام قلوبهم، أخذتهم السيارة من أمام البيت وغادروا بحفظ الله.
وبدأ بعض الحضور في مغادرة المكان، إلا أمك ما زالت بوقفتها تسترجع المشهد، فما زال بداخلها دمعة وصرخة مكتومة، وألمٌ وشعورٌ بالفقد، وكأنها أصيبت بسهم في قلبها، وما هي إلا لحظات فإذا بها تسقط من وقفتها، وتقوم أم حميد والنساء الموجودات تحاولنَ مساعدتها دون جدوى، وأحسّ الجميع بخطورة الموقف، فقمت أنا وعبد الله بن شنين بنقلك أنت ووالدتك للخويرات، عن طريق قارب خشبي صغير، ونحن نسارع بضرب المجاديف على سطح البحر، لعلّنا نصل قبل أن تشتدّ حرارة الصيف، بعدها رجعنا نحن الإثنين للغليل، وفي داخلنا ما زال مشهد المسافرين الراحلين، ومشهد انهيار المودّعين، فالقلب ينادي الغائبين، لطفاً بنا فقد أرهقنا الحنين، وقد كانت لحظات الوداع لحظات بالغة التوتر والشجون، تُختزل فيها التفاصيل التافهة، وتتعامل مع الجوهر، وتتوهج فيها الروح، فمن بين الراحلين إنسان يرحل عنك، ولم يرحل منك.
وفي الجانب الآخر، وهُم في طريقهم للمطار، والدك يطلب من السائق المرور على ابنة عمه سالم بن مكتوم بمركز ولاية السويق، لأن إحساسه كان يقول: قد لا نلتقي بعد هذا اليوم، والنفوس لا بد أن تتصافى بالحل والبريان. بعدها غادروا إلى مطار بيت الفلج، وصعدوا للطائرة في ١٢/ ٤ /١٩٦٧م ليأخذوا أماكنهم فيها، وفي مطار البحرين استقبلهم أخوهم ناصر، الذي كان يترقب وصولهم بقلق وخوف على صحة خميس، ثم أخذوه للمستشفى، ولكن الأيام لم تطُلْ هذه المرّة، ويحسّ بدنوّ الأجل، فيوصي إخوانه على ولده سعيد.
وفي ٢٠/ ٤ / ١٩٦٧م أي بعد أسبوع تقريباً، توفي خميس، وقد غُسّل وصُلّى عليه ودُفن بمقبرة الحنينية بالرفاع، وهو في عزّ شبابه، عن عمر قد ناهز الثلاثين سنة تقريباً، فهذه المرة سافرت روحه إلى بارئها، ولن يعود الراحلون، فالسفر قد قطع الأنين.
إنا لله وانا اليه راجعون، اللهم اغفر له وارحمه وأكرم نزله، ووسّع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرَد، وطهّره من الذنوب والخطايا كما يطهّر الثوب الأبيض من الدنس، اللهم آنس وحشته واجعل سيئاته حسنات، وحسناته درجات، واجعل قبره روضة من رياض الجنة، اللهم واغفر لأمواتنا وأموات المسلمين.