2024
Adsense
مقالات صحفية

كريمة رغم بؤسها

    صالح بن خليفة القرني

وقفتُ بمحاذاتها أتأمّل قوامها وأتعجّب من حُسنها وبهائها، ترمقكَ بنظرةٍ تبدو كنظرة الموناليزا ذات الابتسامة الغامضة، التي تلاحقك نظرات عينيها أينما ذهبت، ويكمن الاختلاف بينها وبين الموناليزا أن نظرتها باسمة، تخفي حزناً، بل وتكسوها الكآبة.
جلستُ محاولاً تهدئة رَوعها، والتخفيف من بؤسها، حين شعرتْ بوجودي بدأتْ تبكي وتنتحب، ولم أتبيّن منها كلمةً من كثرة النشيج.
هي كريمة لأقصى حدّ، طيبة لأبعد مدى، تشبه الأسلاف الذين يؤثِرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، يبدو الواحد منهم باسماً مرحاً وبين جوانحه همومٌ ينأى بحملها صمّ الراسيات، يَصدُق فيهم قول الشاعر:
تراهُ، إذا ما جئتهُ، متهللاً
كأنكَ تعطيهِ الذي، أنتَ سائله

أتراها تنتحب لفقد أسلافها؟ أم لحالها بعدهم؟ فلم يعد يعتني بها أحد إلا ما نذر، وما عاد العمانيون أو أبناؤهم -إن صحّ التعبير- يحفلون بها، أليست هي التي امتدحها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: ” إنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً، مَثَلُهَا كَمَثَلِ المُسْلِمِ”. متفق عليه.

إنها النخلة، تلك الشجرة المباركة التي ما رمى منها العمانيون شيئاً، فمن أصولها إلى عذوقها صنعوا الكثير واعتنوا بها عنايتهم بأبنائهم.
فكان الواحد منهم يرتبط بها عاطفياً، ويؤثرها على أهل بيته، فربما يقترض ليوفّر لها الماء والأسمدة، فتجدها تجود له بأطيب الثمر.
أمّا اليوم، فما زالت تعطي وتجود، إلا أنها تفتقد عشاقها ومريديها، وهذا ما يفسر بؤسها، فأغلب من يقومون بخدمتها ينطبق عليهم المَثل العمانيّ: “كما بو يرعى جمل خالته”، فجُلّ ما يريده أن يستلم راتبه، ولا يهمّه ماذا حلّ بالنخلة، تجد تعاملهم مع النخلة يختلف كثيراً عن تعامل أصحابها الأوّلين، فلا التلقيح تلقيح، ولا التقليم تقليم.

وليتأكد لك صدق كلامي، تابع جذع النخلة من أصله إلى
العذوق، وتأمّل المكان الذي بدأ فيه العمال الوافدون بالعمل، سترى الفرق جليّاً، ومن يتجول اليوم في أي قرية من قُرى عمان، يجد العاملين في النخلة أغلبهم إن لم يكن كلهم من العمالة الوافدة، والذين أضحوا يزاحمون العمانيين حتى في الطَّنَى (شراء ثمار النخيل) .

التقيتُ بامرأة كبيرة في السنّ، تشارف على الثمانين، عرضتُ عليها كعادة العمانيين تناول الرُّطَب الذي أحمله، فشكرتني، وبعد إصرارٍ مني طيّبتْ خاطري فأخذت رطبة واحدة وقالت: “يا ولدي، أضحى كل شيء يتعلق بالنخلة بمقابل المال، فأنا كما تراني كبيرة في السنّ، وما تسعفني صحتي لكي أعمل، ولكن لا تهون عليّ النخلة”، خجلتُ أن أسألها عن أبنائها وأحفادها، لأنني أعلم أن غالبيتهم لا يعملون في النخيل، غادرَتني بعبارة: “العاقبة خير والله كريم”.

مَن مِنّا لا يحتفظ في ثنايا ذاكرته بذكرى متعلقة بالنخلة؟ سواء ما كان متعلقاً بالرقاط والتسابق لجمع ثمار النخيل غير الناضجة (الخلال)، أو تلك المتعلقة بجني الثمار (الجداد)، وهذا الأخير كان بحد ذاته متعة لا تعدلها متعة، تجتمع العائلة قاطبةً لقطف الثمار، والاجتماع في آخر اليوم على وجبة تجمع الكل، أين أبناؤنا اليوم من ذلك كله؟
سلّمنا النخلة لغيرنا وتحججنا بكثرة أعمالنا، وما عاد يعنينا أن نربّي الأبناء على العناية بالنخلة، وقد أُرمى في هذا المقال بالتشاؤم، ولكنني أجدني أنساق مُرغماً على ذلك، لأن الواقع يقول ذلك، وإن وجدنا من يعمل في النخلة من أبناء البلد فقليلٌ ولا يكاد يُذكر.

فهلّا تداركنا الأمر؟ وحاولنا إنقاذ ما يمكن إنقاذه، فبعد أن كنّا ننتج التمور، أصبحنا أكبر مستورديها، ولنحاول على الأقلّ إن لم نعمل بالنخلة بأيدينا، فلنشرف عليها مجرد إشراف، تشعر به على الأقل بوجودنا، لتستطيع مكافحة آفاتها التي لم تعد تقوى على تحمّلها، فالاهتمام بالنخلة يُعتبر واجباً وطنياً من وجهة نظري، حيث تمثّل العناية بها ركيزةً أساسية في أمننا الغذائيّ، خاصّة في محيطنا الإقليميّ الذي أصبح للأسف الشديد لا يُؤمَن جانبه.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights