تمكين القيادات الوطنية العليا
سالم البادي
بلا شك أن القيادات العليا في اي دولة في العالم تُعتَبر المحور الأساس في العمل الحكومي، كيف لا وهُم الذين يقع على عاتقهم المسؤولية الوطنية الكبرى في صياغة الاستراتيجيات والرؤى والخطط التنموية والمستقبلية للوطن، بل والعمل على تهيئة البيئة المناسبة حسب متطلبات العصر ومتغيراته ومستجداته، مما يحقق طموحات وآمال المواطن، وبالتالي يصبح عليهم مسؤوليات جسيمة في إصدار القرارات الصحيحة الناجعة والسليمة، والمؤاءمة بين الثوابت والقيم والمبادىء الوطنية وعملية التطوير والتغيير الاجتماعي.
وهذا يعني بأن هذه الشريحة لا بد أن تتمتع بقدرات فريدة ومتميزة، ودرجة عالية من الحس والواجب الوطني، لا يمتلكها إلا نخبة من القياديين المتميزين الذين أثبتوا عبر عملهم وإجادتهم وخبراتهم العملية الطويلة المليئة بالتحديات والصعوبات، وبأنهم هم أَوْلى لتولّي هذه المهمات القيادية العليا، وأنهم قادرون على تحقيق أهداف ورؤى وتطلعات الشعب.
بَيد أن هذه الكفاءات ليست بالضرورة أن تكون من داخل القطاع الحكوميّ، وإنما يشمل ذلك القطاع الخاصّ، والمؤسسات الأكاديمية والعلمية والبحثية، ومؤسسات المجتمع المدني وغيرها، لأنها تتطلب منها أن تكون على قدر كبير من الوعي والإدراك وفهم الأمور، وأن تكون متسلحة بالعلم والمعرفة والثقافة والفكر والإبداع والابتكار حتى تصل لتحقيق الإنجازات والطموحات المرجوّة منها.
وحتى نحصل على النوعيّة المختارة المتميّزة من القيادات والكفاءات الوطنية العليا القادرة على إحداث نقلة نوعية وثورة كبيرة من الإنجازات في جميع مجالات الحياة، العلمية والمعرفية والتقنية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والصناعيه وغيرها، يجب أن تتحلى هذه الكفاءات العليا بالقدرة على استشراف المستقبل، والإحساس العميق، وتحرّي المعلومة الدقيقة، واستيعاب وفهم الواقع بما يؤهلها على القدرة للوصول إلى المهمة أو المشروع بنجاح متميز ومبهر، فضلاً عن تحليها بالشجاعة في اتخاذ القرارات المناسبة التى تصبّ في مصلحة الوطن والمواطن، مع ضرورة الإبداع والابتكار وإحداث التغيير للأفضل، والذي قد يلقى عدم قبول من قِبل أولئك الذين هم ضد عملية التغيير والحداثة والتجديد، ويفضّلون الروتين القديم وبقاء الحال على ما هو عليه.
لا شك أن البحث عن هذه النخبة هي مهمة صعبة للغاية، خاصة إذا لم توجد قاعدة بيانات متكاملة توفر المعلومات الدقيقة، مثل تجربتهم وتقييم أدائهم المتميز وإجادتهم في أعمالهم بصورة منتظمة.
بطبيعة الحال فإن تقييم الأداء والإجادة العملية هي السبيل للتعرف على القيادات الناجحة والمتميزة والمبتكرة، والمواهب الإنتاجية والإبداعية، ومن ثمّ اختيارهم.
وهنا يجب أخذ الحذر والدقة في عدم الخلط بين أدوار الإدارة الوسطى والإدارة العليا، والوقوع في افتراض خاطئ بتقييم أداء القيادات الإدارية العليا على أساس أدوار ومهام الإدارة الوسطى.
فهنا يجب التركيز والقياس على قدرة الاجتهاد والإنتاجية في تنفيذ السياسات والكفاءات في تطبيق الإجراءات الروتينية وليس في مجال التخطيط الاستراتيجي والرؤى والخطط المستقبلية.
وتوجد قيادات للأسف لم يُقدّر لها نجاح لسياساتها واستراتيجياتها، بالتالي ظلّت أجيال تعاني من آثار قراراتها وتداعياتها على المدى الطويل.
ونجد أن هناك نجاحات وإخفاقات مردّها قيادات إدارية ناجحة وأخرى غير ناجحة.
وهذا يوصلنا إلى نتيجة أن العنصر الأهم في عملية التنمية الوطنية هو القيادات الإدارية المميزة.
يجب الاهتمام بالإدارة الوسطى وتأهليهم وصقلهم بالمهارات القيادية ووضع معايير خاصة لتقييم أدائهم، والعمل على تطويرهم وتنمية مهاراتهم من خلال برامج تدريبية وورش عمل خاصة، وإخضاعهم لتجارب عملية من خلال توليهم مناصب ومهام متنوعة، ليكونوا قادرين فيما بعد لتحمّل مهام قيادات أكبر.
إن استمرار تطبيق البيروقراطية التي ما زالت قابعة بين أروقة المؤسسات هي عملية غير صحية، وليست طريقة ناجحة، لأنها تعتمد على تطبيق الأنظمة والإجراءات بتجريدها من مقاصدها التي وضعت من أجلها، ودون ربطها بالأداء وتحقيق الأهداف.
هذه البيئة الإدارية بيئة غير مشجعة للقيادات، ولا تتيح الفرصة للإبداع والابتكار، بل تدعو للالتزام والركود.
وفي غياب دور الرقابة الذاتية والرقابة والمتابعة من الجهات المعنية، فلا مساءلة للبيروقراطيين.
واستمرار هذا الوضع الإداري يؤدي إلى التراخي والإغراق في الإجراءات الروتينية والتخلف عن ركب الحضارة والبناء والإنجاز، ويؤدي ذلك إلى تأخر عجلة البناء والتطوير والتخطيط للمستقبل.
وهنا يتحتم على الإدارة العليا أن يكون عملها ودورها ومسؤوليتها مرتكزاً على تطبيق الإجراءات وممارسة السلطة الإدارية من أجل التحكم والمراقبة، وليس حكراً على دفع العاملين وتحفيزهم للعمل فقط.
تسعى الدولة للوصول إلى مؤسسات قوية قادرة على الحصول على كفاءات وطنية تتصف بالإنتاجية وتتسم بدرجة عالية من المرونة والفعالية، وتأسيس قاعدة قوية وسليمة في التخطيط والتنظيم والمتابعة والرقابة والبناء والتطوير، وتتمتع بقدرتها على تحديد الأولويات والمؤاءمة بين أهداف الجهات والمؤسسات المختلفة بالدولة، وهذا كله لن يتأتّى إلا إذا أحسنّا اختيار القيادات والكفاءات الوطنية المتسلحة بالعلم والمعرفة والخبرات والمهارات والتجارب والتدريب الجيد، فضلاً عن رصيدها الإنساني والأخلاقي في بيئة العمل.
وهذه بعض الحلول لتهيئة الكفاءات العليا:
-العمل على تأهيل وتدريب وتعليم أفضل للكوادر الوطنية وصقل مهاراتهم التقنية والإبداعية ذات كفاءة عالية.
-ابتعاث أفضل الكفاءات الوطنية إلى أفضل الدول ذات الخبرات والمهارات المهنية والفنية ليصبحوا قادرين على الاعتماد على أنفسهم، ومساهمين في عجلة البناء والتطوير واكتساب المهارات والخبرات والقدرات القيادية.
-تهيئة بيئة العمل الجيدة لهذه الكفاءات مع ضمان العيش السعيد المريح لهم حتى يتمكنوا من تنفيذ خططهم وسياساتهم والعمل بدون ضغوطات نفسية ولا اجتماعية ولا مؤثرات خارجية.
– تهيئة البيئة المناسبة والأجواء الجيدة لتهيئة المناخ الجيد للإبداع والابتكار والحرية الفكرية.
تترجمت الرؤية الثاقبة لجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم بأهمية تأهيل الكفاءات والقيادات الوطنية من خلال إنشاء الأكاديمية السلطانية للإدارة بموجب المرسوم السلطاني رقم ٢ لسنة ٢٠٢٢.
وتنفيذاً لرؤية عمان 2040 والتي دعت إلى وجود جهاز إداري أو مؤسسة علمية مبتكرة تعمل وفق أولويات محددة مع نظرة شمولية واستشرافية للمتغيرات والتطورات والأحداث العالمية المتسارعة، مع المؤاءمة على مواكبة ومواجهة المتغيرات وفق هذه الإمكانيات.
والمؤمل من هذا الصرح الأكاديمي العلمي الإداري الكبير بأن يصبح جهازاً إدارياً منتجاً للكفاءات والقيادات الوطنية في ظل العالم الاقتصادي الحديث والمتجدد، وتأهيل وتطوير القيادات الوطنية بمختلف مستوياتها الإدارية (الصغرى والوسطى والعليا) وتمكينها لكي تصبح قادرة على إدارة المرحلة الحالية والمقبلة وفق الإمكانيات والقدرات الوطنية.
ولما تمتاز به بلادنا العزيزة “سلطنة عُمان” من خصوصية وطنية فريدة ومتميزة كان من الأهمية بمكان أن يصبح لدينا نهجاً إدارياً حديثاً ومتميزاً يجمع بين الحداثة العصرية وما آلت إليه علوم الإدارة، وبين القيم والمبادىء والثوابت والهوية العمانية بما يحقق الأهداف التنموية التي تمت بلورتها في رؤية عمان 2040.
وتتطلب المرحلة الآن أكثر مما مضى من هذا الصرح الوطني الكبير “الأكاديمية السلطانية للإدارة “ تعزيز وتمكين وتطوير القيادات العليا والتنفيذية في الحكومة وفي القطاع الخاص (قطاع الأعمال) والتي يقع على عاتقها العبء الأكبر في تنفيذ سياسات الدولة والبرامج والخطط والاستراتيجيات التنموية والمستقبلية، لكي يصبح لدى الدولة كادراً مؤهلاً قيادياً في أي ظرف ومكان، ويضمن ديمومة العمل وكفاءة الأداء والإجادة العملية، وترسيخ مبادىء الكفاءة والجدارة والإجادة والإنتاجية والإبداع والابتكار في جميع المجالات.
ونود التأكيد والتركيز على الكفاءات القيادية الوطنية وخاصة الشبابية الملهمة، وبأن تتاح لهم الفرصة لابداء قدراتهم ومهاراتهم وإبداعاتهم وابتكاراتهم من خلال تهيئتهم ليصبحوا قادرين على تولّي مناصب قيادية عليا وفي الأماكن المناسبة لهم.
ونحن على ثقة بأن الشباب العماني لديه من الإمكانيات والقدرات العلمية والمعرفية والخبرات العملية ما يمكّنه من تحمّل مسؤولياته تجاه وطنه وشبعه وسلطانه، ويستطيع تجاوز التحديات والأزمات المعاصرة، وإدارة المرحلة الحالية والمقبلة لإيصال الوطن إلى آفاق الإنجاز، وتحقيق طموحات وآمال المواطن نحو رؤية عمان المستقبل.