ليلة القدر الأخيرة
عائشة عبدالله عزازي
احتار قلمي كيف يبدأ الحكاية، ففي قلبي الكثير من الشوق والحنين لحضارة أجدادي، فإن كانت بعيدة بالزمان والمكان، فهي حاضرة في العقل والوجدان.
ينتابني لذكراها مشاعر مختلطة مابين الفخر والاعتزاز، وما بين الحسرة والألم.
فهي ما زالت جرحاً نازفاً ينخر في خاصرتنا على مدار الأيام.
فمنذ ألفٍ وثلاثمائة عام تهللت وجوه المسلمين فرحاً وسروراً لهذا الفتحِ المبين، يوم تغلب الهلالُ علي الصليب، وارتفع صوت الأذان في أرجاء اسبانيا ( الأندلس)، فانتشر العدل، واجتمعت أصنافٌ من البشر على اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وألوانهم تحت رايةِ التوحيد، متساوين في كل شيء، فلهم الحرية في معتقداتهم الدينية_ سواء كانت يهودية أو نصرانية أو غيرها_ فقد كانوا يمارسون طقوسهم الدينية ويحتفلون بأعيادهم دون محاسبة أو مراقبة، بل تعامُل باطنه الرحمة وظاهره الرفق والاحترام المتبادل بين أفراد المجتمع الأندلسي، فنمَت حضارة عريقة راقية ذات تمازج فريد من نوعه، ومن خلال هذا التوافق الديني كانت الدولة_والتي تحمل راية التوحيد_ تعتني بالأعياد والمناسبات، ومنها التحضير لشهر رمضان الفضيل، شهر الرحمة والغفران، فكانت تستقبله بحفاوةٍ بالغة، وترصد دولة الخلافة الكثير من أموال الخزينة لأجل استقبال الشهر العظيم، فتعقد الاجتماعات لأجل إعداد موائد الرحمن ومساعدة الفقراء وإطعام طلاب العلم ممن كانوا يدرسون في جامعة قرطبة، ويزيّنون المساجد بأجمل الحُلل لأجل صلاة التروايح والقيام، ويرشّونها بالمسكِ والطِيب، ويضيئون المصابيح، ويجهزون الحلوى والأطعمة الرمضانية كشراب قمر الدين وغيره.
فلرمضان قدسية مهيبة ومكانة عظيمة ليست في نفوس الولاة والمسلمين فحسب، بل لدى الطوائف الأخرى؛ لأنهم كانوا يعيشون جميعاً في تعايُشٍ دينيّ امتاز بالسماحة والسلام.
وبقيت الأندلسُ شامخة على مرّ العصور، شامخة بأصالتها الإسلامية العربية، وقد غدت صرحاً علمياً عظيماً يغدو إليه الطلاب من أقاصي الأرض ومغاربها، وتغنّى بها الشعراء في كل المحافل، ومع مرور السنوات أصاب الوهن أركان الدولة، وعمّ الفساد وانتشرت الفتن الداخلية بين الحكام والولاة، وأشغلتهم الدنيا بمفاتنها، فأصبحت الأندلس فريسة سهلة الاصطياد من قِبل المتربصين الذين كانوا ينتهزون أي فرصة لمهاجمة الثغور.
ولشدة حقدهم انتهزوا انشغال المسلمين بصوم رمضان وصلاة التروايح، فهاجموهم من كل حدب وصوب؛ فتصدى لهم المسلمون وبذلوا الغالي والنفيس في سبيل حفظ بلادهم واللذود عن مساجدهم ومدنهم وقصورهم، وإلى هنا بعد الحُطام ودّعت الأندلس المكان وحلّت نسائم الأحزان في ليلة القَدرِ الأخيرة، وسلاماً سلاما يا بدر الهلال.
سوف تشتاقُ إليك الأركان، لن أبكي أو أغني، بل سوف أقول إلى لقاء قريب بإذن الرحمن، إلى لقاءٍ أندلسيٍّ يبعث فينا ما أقبره الزمان.