ولنا في الشتاء حياة
منال السيد حسن
تجلس في شرفتها على ذاك الكرسي المحبب إليها مغمضة العينين إلا عنهُ، رأسها مستنده على كّفْها بنفس الطريقة التي يوبخها أباها بسببها كلما رآها، والشمس ساطعة رغم برد يناير القارس.
تنهدت وهي تنفض عنها ذكرياتها قائلة: “نعم، إنه فصل زوايا العشق المفتوحة، برده نار بلا لسعٍ، وعطاؤه مَنٌّ بلا قطعّ”، حتمًا وحسبما باحت عيناها أنه فصل الأحلام ورفرفات الرؤى النضرة، الضوء الأخضر للحياة، هذا ثغره نداء متدفق للنبض وللحرية. ارتدت معطفها الشتوي الأسود المحبب إليها وتبسمت في خجلٍ وهي تلف تلك الكوفية بنية اللون على عنقها، عانقتها وكأنما تصب في روحها نيلًا للهوى، وكعادتها كل شتاء تخرج في الصباح ولا تعود إلا مساءً حيث ارتعاشات النجوم في كبد السماء.
أما اليوم، كانت قد قررت من قبل الذهاب إلى بحر الإسكندرية، ارتدت حذائها وقفازيها على عجلٍ وتجولت يمينًا ويسارًا تبحث عن “تاكسي” يُقِلَها لموقف الباصات، كانت الشمس قد غابت في الأفق البعيد، وامتلأت السماء بغيومٍ تنم عن هطولٍ عظيم سريعًا ما انهمر فوق رأسها، وشعرت به كنغمٍ ينمق مسمعها، وفجأة توقفت أمامها سيارة من نوع (سكودا) وتهتهت في كلمات غارقة: “تلك السيارة .. أعرفها، ذاك الرقم .. أحفظه” تراه قد سمع نداءاتها الخفية؟ هل تحققت دعواتها فجرًا ملبية لها وجوده، وجوده في تلك اللحظة تحديدا؟!
وقعت في حالة من الوعي واللاوعي، وللحظة قررت الكلمات أن تتحدى سكوته وخرجت .. قائلا: “اليوم تحديدًا ظللت واقفًا تحت الشجرة هناك أنتظر خروجك كعادتك في كل صباح شتاء، تركت كل أعمالي وقررت اليوم فقط أن أقضي معكِ شتاء اليوم، تمطر السماء فوق رؤوسنا فتنبت أزهار الحرية في قلوبنا، بالمناسبة ما قلتيليش ليه كنتِ بتدوري على تاكسي، بالعادة بتمشي تحت المطر” فابتسمت وقالت: “اليوم قررت أن أحقق حلمًا قديمًا لي، تحقق منه إلى الآن كله عدا شيء واحد” فرد قائلًا: “أنا جاي معاكِ” قاطعها صوت (نانسي) وهي تغني” “يا كثر ما شلت في قلبي عليك، يا كثر ما قلت ما أسامح خطاك” فتبسمت قائلة كيف عرفتِ بأني هنا، في ذاك المكان تحديدًا؟! كل هذا وهو ينظر إليها بسكوته المبالغ فيه، وبسمته الهادئة تلك.
دلفتُ إلى السيارة في سكونٍ وسكوتٍ عجيبين، وتذكرتْ المرة الأولى التي ركبت فيها تلك السيارة والتي أقلتهما ذات يوم إلى تلك الحارة القديمة عند قهوة (عم محمد )، عم محمد هذا لم تكن تعرف اسمه الحقيقي ولكن نادته يومها عم محمد، ومنذ ذلك الحين وفي كل مرة تذهب لنفس المكان تناديه عم محمد، ويضحك الأخير كثيرًا عند سماعه ذلك الاسم، كم مرة من قبل حاول أن يوضح لها اسمه الحقيقي ولكنها اكتفت قائله: “خلاص عاجبني أقولك عم محمد لو تسمحلي” كان يبتسم ويعطيها ذاك الفنجان الذي يمثل لها حالة من العشق الذي لا يستطيع وصفه شاعر أو كاتب أو حتى لغة.
و تذكرت عندما كانت تجلس على كرسيها المفضل تحت شجرة الياسمين الجميلة .. تتطلع في وجوه المارة مبتسمة و عيناها مغرورقة بالدموع .. عل طيفه يمر من هنا .. و يحتضنهما ظل شجرة الياسمين ككل مرة في غيابه.
وتذكرت المرة الأخيرة الني ذهبت فيها لتودع شجرة الياسمين .. و الحارة الجميلة و منحنيات شوارعها التي طالما تعثرث بها و تعثرت فيها .. و (عم محمد) الجميل .. لا يزال لسانُها عالقا على طرف الفنجان و سلاسل شعرها الغجري منثور على يدها .. كأنها كانت تختبىء بين طياته.
وفجأة ارتجفت بكل ما أوتيت من خجل، عند تخللت أنامله بين أصابع يديها المتشابكة فانتفضها من ذكرياتها وكأنما يقول لها أنا هنا الآن .. إلى جوارك، فسلمته إياها طوعًا ولم تنبس ببنت شفة.