متاهة العمر
بلقيس البوسعيدية
أودّ أن أعود طفلة، هذا جُلّ ما أتمناه وأنا أتأوّه في أوج اشتغالي، وأنا أتعذب تحت وطأة هذا الإحساس بالإعياء الشديد. أودّ أن أعود طفلة لا لشيء؛ إنما لأقبض على القُبلة الأولى من قلب أمي، تلك القبلة البيضاء التي اعتدتُ عليها منذ أن منحني الله قلباً صغيراً لا ينبض حياة إلا حينما تلمسه يديها الطاهرتين.
لقبلة أمي مذاقها الخاص، ودفأها الصادق الفياض الذي يجعلني أتقيأ أحزاني، وأستشعر قيمة وجودي كإنسانة حية نابضة متوهجة ومفعمة بالحياة.
كلما أطفأت شمعة من شموع طفولتي؛ أشعر بأنني أبتعد خطوات شاسعة عن أمي، وهذا أمر في غاية الرعب والوحشة، إحساس مبتور الأمان يأخذ في التوسع والانتشار ما بيننا على مهل وبصورة مخيفة جداً.
فما أبشع أن أكبر وأن أغدو امرأةً ناضجة تُجبرها ظروف الحياة على ترك طفولتها وعنفوان شبابها والتخلّي عن بعض أحلامها وأمنياتها والكثير من رغباتها.
تجلدني قسوة أمي بلا توقف، وترغمني دوماً على ارتداء معطف يستر ملامح الطفلة الساكنة بداخلي، ترغمني أن ألعب دور المرأة الناضجة، الواعية، الواثقة والمعتدّة بنفسها في صورتها الجامدة الصلبة، التي لا تقوى الرياح العاتية على تحريك خصلة من خصلات شعرها، فبينما أبرع أنا في حصاد ملايين الإعجابات والتصفيقات الحماسية من أمي ومن الناضجين في الصفوف الأمامية؛ أحسّ بأن هناك صوتاً غامضاً يَدوي بشكلٍ محزن بداخلي، صوتاً يعرف أصل جذوري ويميّز ما بين وهمي وحقيقتي، يعلم بأن هذا المعطف الرثّ الذي يكفّن جسدي، هو ذاته المعطف الذي كلما خلعته في عزلتي؛ انهارت قوايَ وانهمرت حقيقتي، وأصبحت عارية تماماً أمام نفسي. لحظات عديدة هي التي مرّت عليّ ورغبتُ فيها أن أصرخ بكل ما أوتيتُ من صوت؛ ليدرك العالم بأني ما زلتُ تلك الطفلة ذات السبعة أعوام، التي شهدت موت أبيها بقلبٍ يجهل الحزن، وبعينين مفجوعتين وبصمت مُطبق، لكنني أتخلّى عن تلك الرغبة كلما لمحتُ الغضب والعتاب في عينَي أمي، وهي تتفحّص بدقة علامات نضجي المشوّهة بشكل رهيب، وكأنها تقرأ أفكاري وتسبر أغواري.
لا، لا يحق للعمر أن يسرقها مني، فأنا أشعر بالعطش دائماً للارتواء من نبع حنانها.
أودّ أن أعود طفلة لا لشيء؛ إنما لأحظى بعناق طويل وقبلة حميمة من أمي تعيد إليّ طفولتي.
يظن الجميع بأني قد كبرت حينما فطمتني أمي وأطفأتُ الشمعة الرابعة عشرة من عمري دون أي احتفال، لم تكن شمعة عادية، إنما هي شمعة جعلتني سجينة ما بين حياتين، حياة اللهو والمرح الممزوج بالسعادة وبراءة الطفولة، وحياة الحزن والشقاء هذه التي أعيشها وأنا أركن في زاوية مهملة، مختبئة في الظلّ، وأدوّن ما أكتبه الآن خلسة؛ مخافة أن يدرك العالم حقيقتي، حقيقة أنني لم أكبر بعد، وما زلتُ تلك الطفلة الشقية التي يهتز كيانها، وينتفض قلبها الصغير فرحاً وتلمع مقلتاها كالشهب؛ كلما برقت لها بارقة ابتسامة من وجه أمها البهيّ.
أذكر أنه في إحدى ليالي الشتاء الماضية، حينما كان الثلج يسقط مغشياً عليه في الخارج، طلبت مني أمي أن أضعها في فراشها وأن أغطيها؛ لأبقي على جسدها آمناً من لسعات البرد والصقيع، لكنها إحدى نسمات الصقيع القارصة اللعوبة، انتهزت غفوتي واخترقت ملابس أمي الكثيفة، وغزت دفء جسدها حتى صرختْ في وجهي قائلة: “تبّاً لك، إنك فتاة عديمة المسؤولية.”، وقتها لم أستطع أن أنبس بكلمة واحدة، أو أن أدافع عن نفسي وعن الطفلة ذات السبعة أعوام التي شهقت وتوقفت عن النموّ فجأة بداخلي. كانت أمي تهمس لي على الدوام بهمسٍ يشابه فحيح الأفاعي:
“بأن صوت الفتاة كلما علا في منزلنا؛ أصبح عورة يتحتم سترها، ولا يحدث ذلك إلا ببتر لسانها.”، لربما ذلك هو السبب الأعظم الذي جعلني ابتلع غصتي ببطء شديد، دون أن أنبس ببنت شفة، كان لزاماً عليّ أن أحافظ على صمتي، وأن أتوقف عن التذمر كطفلة مسكينة، بلا حيلة لها ولا قوة ولا قيمة ولا حتى معنى. ظلّ صوت أمي المعاتب إياي قبل أن تغمض عيناها التي سرقت النوم من عيني، يتردد كطلقة رصاص طائشة في داخل رأسي، بِتُّ تلك الليلة ساهرة وأنا أقول في خلدي: “كيف؟!، كيف لطفلة لم تتجاوز السبعة أعوام أن تتحمل مسؤولية صعبة كتلك؟!، كيف لي أن أكون مسؤولة عن أمي؟!.”
فيما مضي كان لديّ اعتقاد راسخ بأن من يكبر يصير أباً أو أماً لنفسه، لكني كفرت بذاك الاعتقاد، حينما لمستُ رغبة أمي العارمة في جعلي امرأة مسؤولة، وعلى وجه الخصوص مسؤولة عنها، كنت ألمح بريق لهفتها في عينيها السوداوين لأن أصبح أماً رؤوماً لها، برغم يقينها بأنني ما زلت تلك الصغيرة التي لم تتجاوز السبعة أعوام بعد.
أرتب لها الأعذار بيني وبين نفسي، أعذر قلبها الذي لم يستطع أن يحتمل ثقلاً كهذا. في تلك الليلة شديدة البرودة على روحي والثقيلة على قلبي، هرعتُ إلى مذكرتي وأشعلت شمعة طفولتي، وكتبتُ جملةً طفولية أخيرة وأنا في غمرة بكائي:
“على الأمهات أن لا يكففنَ عن احتضان أولادهنّ، على الأمهات أن يحتضنّنا إلى ما لا نهاية.”