في عيد الأم أقول..
فوزي بن يونس بن حديد
abuadam22f@gmail.com
قالوا اليوم عيد الأم، قلتُ: وهل للأمّ يومٌ واحد نحتفل فيه بعيدها؟ فكلّ يوم هو عيد الأم، استغربوا الحكاية ولكنها الرواية التي ملأت الدنيا اليوم صخبا، وعدّت الأمّ حكاية تمضي سريعا، ولم يعرفوا أن الأم غرسٌ يتجدّد وعُمُرٌ يتمدّد وباقةٌ تتورّد.
الأم هي الحبّ والحنان والدفء والأمان، أوصى بها رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، وقالها لنا ثلاثا: أمّك ثم أمّك ثم أمّك، دليل على عظمة الأم في حياة الإنسان، فالنبي عليه الصلاة والسلام تجرّع وجعَ الفقد وهو لا يزال صبِيًّا، وحُرم من حنانها وعطفها باكرا فقد ماتت وهو في السادسة، كان يحتاج إلى حضن يأويه، وضمّة صدر تُبقيه، وقُبلة على خدّه تُرضيه، وتمنحه السعادة في يومه والنشاط في عمله.
فما أجمل أن تكون الأم رائدة البيت المعمور، وما أجمل أن تسطّر الأم خيوط الصباح وهي تُقبل عليك بابتسامة تمنحك الانشراح وأنت على استعداد للذهاب للعمل أو الدراسة أو السفر، فدعاؤها يلازمك أينما كنت وأينما ارتحلت، وقلبها يخفق قلقا عليك حتى تسمع صوتك أو ترجع إلى حضنها، لا تهدأ إذا هاجرتها ولو ساعات وإذا عاودتها على الاتصال لا يغمض لها جفن حتى تطمئن أنك بسلام، ولا ترقد هانئة حتى تدرك أنك في أمان، هذه هي الأم التي نتحدث عنها في هذا المقال.
من كانت أمّه حيّة، فليهنأ بوجودها معه، كنزٌ لا يُقدّر بثمن، وبركة تطيل العمر، ورمز لا ينكسر، تظل عملاقة في قلبك للأبد، فهي المأوى والحضن الذي لا حضن له، إذا مدّت لك يدها قبّلتَها، وإذا أمرتك أطعتَها، وإذا دعت لك أجزلتَ لها العطاء، وإذا توجّعت استنفرت قواك من أجلها، وإذا تألّمتْ اسودّت في وجهك الدنيا، وإذا فرحتْ حازت لك الدنيا بكل حذافيرها.
ليس في قاموسنا نحن المسلمين يوم مخصص للأم، فعمر الأم كله عيد، نحتفل به كل يوم نصبح فيه، نستقبله بقُبلة نصنعها على رأسها احتراما وتقديرا لها، وأخرى على يدها إجلالا لما قدمته لنا، وندعو لها بطول العمر والصحة والعافية، ونلبي حاجياتها بلا تأفّف ولا تندّر، ونقدم لها ما تحتاج من رعاية ومال وغيرهما بلا منّ، فذلك هو العيد الذي نحتفل به عندنا.
علّمتنا الأم أن الحياة بدونها ظلام، وأن حزنها أو غضبها علينا حرام، وأن رضاها هو المبتغى التمام، لا نحتاج إلى عيد حتى نبرّها، بل إن كل أيامها عيد نخصّصها لها، فعذرا لمن جعل هذا اليوم عيدا، وبئسًا لمسلم لم يبرّ أمّه ولم يقرأ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن فقد أمه كان كمن فقد الدنيا كلها، ويبقى وجع الفقد يلازمه ويقض مضجعه، يتمنى أن تعود للدنيا ليعتكف في محرابها، يتمنى أن تعود للحظات حتى يقدّم لها أفضل ما عنده ويفدي نفسه من أجلها، يتمنى أن يعود الزمن به للوراء حتى يُرضيها ويقبّل يديها، لكن الزمن لن يعود ويبقى التمني سرابا يجول في قلبه ويتحسّر من أجله، فلن يكون أمامه إلا أن يستغفر لها ويدعو لها بالرحمة والرضوان وأن يسكنها فسيح الجنان.
وكاتبُ المقال من الذين فقدوا أمهاتهم، آلمني فراقها، ولم أدرك أن الدمعة التي ذرفتها عينُها وسقطت على خدّها ستبلغني بلحظة الوداع الأبدي، ولم أدر أن وداع الأمّ قاس جدا وأليم، كان وجهها مضيئا وهي تدخل غرفة العمليات لإجراء عملية جراحية فورية على القلب المفتوح، بعد معاناة استمرت أشهرا كثيرة، سببها خطأ طبي.
رحلت أمي الغالية الشريفة العفيفة الطاهرة النظيفة الرقيقة، النقية، البهية، لا ديْن عليها ولا إرث لها، رحلت ولكن لم أصدق أنها رحلت، رغم يقيني بقضاء الله تعالى وقدره، وإيماني بالأجل المحدّد، لكن الوجع والفقد والألم مفردات تصاحبني إلى اليوم بقوة وتغتال نفسي وتحوّطها، إنها الأم، التي أوصى النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بها خيرا، وإنها الصدمة الأولى التي أثّرت علي ولم أتحمل وقعها لكنها قدر الله تعالى الذي لا مفرّ منه.