حَرْفان بـــ 10,000 درهم
د. محمد عزيز عبد المقصود
أستاذ لغويات مساعد بكلية اللغة العربية
جامعة السلطان عبد الحليم معظم شاه الإسلامية العالمية ماليزيا
الإيميل /mohamedaziz@unishams.edu.my
mohammadaziz1974@yahoo.com
لقد أولى الخلفاء قديما اللغة والقرآن ومختلف العلوم اهتماما؛ فشيّدوا صروحا علمية عريقة ظلّت قرونا تضيء للعالم أجمع، وينهل من معينها كل قاصٍ ودانٍ، وتمثل ذلك في مجالس الخلفاء التي شملت مجالات علمية خصبة خاصة علوم اللغة العربية نحوها وصرفها وشعرها ونثرها..، وكان عطاء الخلفاء لا حدود له من السخاء؛ مما جعل العلماء يقدمون أفضل ما عندهم، ويصولون ويجولون في ساحات العلم كأنها ساحات سياسية.
وكانوا كذلك يهتمون باختيار مؤدبين أتقياء فصحاء؛ كي يقوموا بتأديب أبنائهم وتعليمهم وتثقيفهم، وهذا يظهر مدى المستوى الثقافي الذي كان عليه أبناء الخلفاء، وكذلك تقريب العلماء من مجالسهم؛ حيث كان الخلفاء على درجة من الثقافة والعلم تجعلهم يدركون دور العلماء في بناء المجتمع والرقي به.
وهناك قصص وردت إلينا -سواء صحيحة في بعضها أو يغلب عليها طابع الأسطورية في أكثرها- عن الخلفاء تبين لنا مدى اهتمامهم بالعلم والعلماء وتقديرهم، ومن ذلك قصة حدثت في عهد الخليفة المهدي نوجزها فيما يأتي.
روى القِفْطِيّ في كتابه(إِنْبَاه الرّواة على أَنْبَاه النّحاة 2/ 259)، وياقوت الحَمَوي في كتابه (مُعجم الأدباء 4/ 1740) أنه كان عند الخليفة المهدي مؤدب يؤدب الرشيد، فدعاه المهدي يوما وهو يستاك، فقال له: كيف الأمر من السواك؟ قال: (اسْتَكْ) يا أمير المؤمنين، فقال المهدي: “إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ”، ثم قال: التمسوا لنا من هو أفهم من ذا.
فقالوا: رجل يقال له: علي بن حمزة الكسائي من أهل الكوفة قدِم من البادية قريبا. فكتب بإشخاصه، أي (إحضاره) من الكوفة، فساعة دخل عليه قال: يا عليّ بن حمزة، قال: لبيك يا أمير المؤمنين، قال: كيف تأمر من السّواك قال: (سُكْ) يا أمير المؤمنين، قال: أحسنت وأصبت، وأمر له بعشرة آلاف درهم.
وهنا نلحظ أن السؤال الذي سأله المهدي للمؤدب هو نفسه الذي سأله المهدي للكسائي، لكنه أقر جواب الكسائي، ولم يقبل جواب مؤدب الرشيد.
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل جواب مؤدّب الرشيد عندما قال للمهدي:”اسْتَكْ” خطأ؟
نقول: جواب المؤدب صحيح، ولعل أشكل على الخليفة اشتقاق الفعل، فقد أنكر على مؤدب الرشيد ووافق على ما ذكره الكسائي، خاصة إذا علمنا أن لفظة (استك) تحمل معاني دلالية مختلفة، منها (دبر الإنسان)، ويمكن أن يكون هذا المعنى المعجمي هو الذي تبادر إلى ذهن الخليفة، وغلب على صحة الاشتقاق القياسي عنده.
وممن أجابوا عن هذه المسألة الاشتقاقية في جواز الفعلين ابن منظور في (لسان العرب مادة “سوك” 3/2156)؛ حيث قال:”وَسَاكَ الشَّيْءَ سَوْكًا: دَلَكَهُ، وَسَاكَ فَمَهُ بِالْعُودِ يَسُوكُهُ سَوْكًا، وَاسْتَاكَ مُشْتَقٌّ مِنْ سَاكَ، وَإِذَا قُلْتَ: اسْتَاكَ أَوْ تَسَوَّكَ، فَلَا تَذْكُرِ الْفَمَ”.
وكلام ابن منظور واضح تماما في جواز صياغة الفعل “سَاكَ” من السواك، وكذلك الفعل “اسْتَاكَ” أو “تَسَوَّكَ”.
لكن ما الفرق بين “سَاكَ” و”اسْتَاك أو تَسَوَّكَ”؟
الفرق يتمثل -كما ذكر ابن منظور في قوله السابق:”وَإِذَا قُلْتَ: اسْتَاكَ أَوْ تَسَوَّكَ، فَلَا تَذْكُرِ الْفَمَ”- أن الفعل “اسْتَاكَ أو تَسَوَّكَ” يعد فعلا لازما دالا على الاتخاذ، أي اتخاذ السواك، فلا نحتاج مفعولا به في الجملة، وقول ابن منظور “فَلَا تَذْكُرِ الْفَمَ” يقصد فلا تذكر المفعول به، في حين قوله:”وَسَاكَ الشَّيْءَ سَوْكًا: دَلَكَهُ، وَسَاكَ فَمَهُ بِالْعُودِ يَسُوكُهُ سَوْكًا”، أي أن “سَاكَ” يتعدى بنفسه، فيحتاج مفعولا به، وفي المسألة جوانب صرفية أخرى لا يتسع المجال لذكرها.
والخلاصة يتبين لنا مما سبق:
أولا: أن الفعل “ساك” فعل متعدٍّ مجرد من أحرف الزيادة؛ حيث يتعدى بنفسه إلى مفعوله، أما “استاك” أو “تسوّك” فإنه فعل لازم مزيد بحرفين لا يحتاج مفعولا به.
ثانيا: أن جواب مؤدب الرشيد كان صحيحا، كما كان جواب الكسائي صحيحا كذلك، لكن في مجلس الخلفاء لا بد أن نختار ما يتناسب معهم، وهذا ما أدركه الكسائي؛ فهو ذو فطنة ودراية، وعنده من الخبرات اللغوية ما جعله يختار خيارا اشتقاقيا مناسبا، وليس معنى عدم اختيار الكسائي التعبير بــ “اسْتَاكَ” أو “تَسَوَّكَ” أنه لم يكن يعرفه؛ فهذا بعيد عنه، لكنه اختار ما يتناسب مع مجالس الخلفاء، فقال “سُكْ”.
ثالثا: أن صياغة الكسائي فعل الأمر من السواك وقد اشتق في حرفين “سُكْ” هو المقصود بقولنا: حرفان -السين والكاف- بعشرة آلاف درهم.
رابعا: أن مثل هذه الحوارات العلمية في مجالس الخلفاء تبرز دورها المهم في نشأة علوم العربية وتطور الفكر اللغوي عبر فترات زمنية متنوعة.
رحم الله الخلفاء ممن قدّروا العلم والعلماء، ورحم الله العلماء؛ حيث أعلوا مكانة الخلفاء احتراما وتقديرا؛ فذكروا ما يتناسب ومجالسهم.