الخروج من الظلمة ( الجزء الأول )
خلفان بن علي الرواحي
بعد مُنتصِف الليل يجر قدميه في متاهات الشوارع بين تلك الأزقة التي تضيق أحيانًا، حتى أنها لا تكفي إلا لعابر واحد.. يمشي ساعات في طريق لا يعرف لها نهاية ويحمل على كتفيه هموم لا تحملها الجبال.. خلال سيره يصادف علبة فارغة لمشروب غازي يلعب بها.. يركلها بقوته على الجدران التي تحيط به.. تصدر صوتًا عاليًا يتردد في الزقاق الفارغ. وجد متعة في الركل والصوت الصادر.. فكرر العمل مرات عديدة حتى اجتمعت العلبة على بعضها وأصبحت متماسكة وقوية.. لم يستطع ركلها مرة أخرى فقد بدأت في الدفاع عن نفسها فألحقت به الألم في قدمه العارية.. مع كل ركلة كان يخرج نفسًا عميقًا يزفر معه جزءً من تلك الهموم التي على كاهله.. إنحنى وتناول العلبة ونظر إليها شكرًا لها على مؤانسته لحظات من وقته، وفي كوة بحائط يضعها بكل رفق ويلوح لها راحًا وكأنه يودع حبيبًا مسافرا.
يواصل السير في نشاط بخلاف ما كانت بدايته.. وجد شيئًا من الراحة تدخل إلى أعماقه ولا يدري من أين! قد تكون تلك العلبة الصماء أحن عليه من العالم الذي يعيش به.. وفجأة يجد نفسه في بهو واسع وسطه نافورة ماء حولها إنارة ممزوجة بين الأزرق والأصفر.. فكر قليلًا وقال في نفسه: “يرمز اللون الأزرق إلى الهدوء نظرًا لأنه مرتبط بالطقس البارد؛ وبالتالي بالصفاء والخمول والهدوء الذي يجلبه هذا المناخ، وهذا ما أحتاج إليه.. الهدوء”. ثم أتجه لأحد الكراسي المقابلة للنافورة وجلس هادئًا يتأمل قطرات الماء وهي تنزل على الحوض المحيط بها.. ووقع قطرات الماء في أذنه تجعله يطرب لها.. ومن ثم عاد من جديد وتأمل اللون الأصفر الذي يمتزج مع الأزرق ويعرف أنه يعد لون التفاؤل الذي يتميّز بإيجابيّة بالغة؛ فهو لون الإبداع وأيضًا الانطلاق إلى الحياة، ويتّصف بأنه لون الاعتزاز بالنّفس؛ إنّه لون الفكر والتفكّر، وهو حقيقة لون الذكاء. لم يحدث فيه ذلك التأثير الذي كان من صاحبه؛ لأن كل ما هو به متناقض مع دلالته.
وقف مرة أخرى وأخذ يدور حول النافورة وكأنه يبحث عن شيء مفقود.. دورة تلو أخرى وهناك من بعيد من يراقبه دون أن يحس به.. استمر على حاله لفترة طويلة وهو لم ينتبه بأن الوقت يمر.. أغلب من كان هناك قد رحلوا فقد تأخر هو ولم يبق غيره مع ذلك المراقب الصامت.. توقف عن الدوران وراقب المكان فلم يجد به غيره وذلك الجالس بعيدًا والذي لا يعرف عنه شيئا.
أخذ غرفة من ماء النافورة وبلل بها وجهه الذي بان عليه التعب لعل تلك القطرات الباردة تنعشه وتعيد له النشاط من جديد، وعندما أراد مغادرة المكان تقدم منه ذلك الظل الجالس هناك في الطرف المقابل ولم يصل بعد إلى النور؛ فقال: “لِمَ كنت أشاهدك كل يوم وأنت تمر من هذه الساحة ولا تنتبه لشيء فيها.. تمر منكسًا رأسك تنظر إلى قدميك.. ولكن اليوم الأمر مختلف؟!”. أجحظ عينيه لعله يرى المتحدث ولكن عبثًا؛ فكان الظلام يغلفه، ولم يستطع رؤية شيئًا إلا سواد! أراد تجاهل السؤال والمضي في طريقه ولكن رد عليه: “وهل كان كل هذا الموجود عندما كنت أمر من هنا؟! .. لا أذكر هذا الاتساع ولا شيئا منه.. لقد كان الطريق الذي أسلكه ضيقا”. يتقدم خطوات نحو المكان الذي يقف به الصوت الذي يتكلم معه لكي يتعرف عليه أكثر وعلى ملامحه.. هل هو مثله تائه في الحياة بلا أهداف..!
داخله خوف وفي الوقت نفسه هناك رغبة الاكتشاف تدفعه.. يصل إليه ويمد يده كي يصافحه.. ولكن لا يجد قبول لذلك.. لحظة بسيطة دخل في نفسه أمر اتجاه ذلك الواقف أمامه.. أدار ظهره له وهم بالانسحاب من المكان.. وقبل ذلك أراد أن يقول له أمرًا يعود إليه.. لقد تلاشى فلا وجود له! يبحث عنه في كل الساحة بدون جدوى ولم يظل في المكان إلا هو.. تساؤلات تدور في ذهنه من أين، وإلى أين؟! تزداد حيرته.. يرجع إلى المكان الذي كان يجلس به.. ويضع يديه على رأسه باحثًا عن جواب.. لم ينتبه لسؤاله إلا بعد حديث الظل له.. أيعقل كنت أمر بهذا المكان ولم ألحظ كل هذا.. أكنت أسير مغمض العينين.. ولماذا اليوم تمكنت من رؤية المكان واستمتعت بجماله؟! يحمل نفسه وتلك الأسئلة التي تدور في الذهن ليبحث لها عن إجابات.
يعود من نفس الطريق الذي جاء منه ولكنه أصبح أكثر اتساعًا.. وأنواره زاهية.. ورأى الجمال في المباني التي مرَّ خلالها وكأنه أول مرة يمر من هنا؛ فأستمتع كثيرًا بما رأى..
صحيح لم تكن هناك حركة لأن الناس قد عادوا لمضاجعهم ولكن هناك أصوات تصل لأذنيه من خلال النوافذ المفتوحة أحيانًا.. ضحكات وفرح وأخرى آهات وألم؛ فهكذا هي الحياة..
الغريب أن وصل للكوة التي وضع فيها بقايا العلبة الغازية المهشمة وتذكر مكانها.. اتجه نحو الجدار ومد يده وحملها معه.. نظر إليها مخاطباً إياها: “ماذا فعلتِ بي.. سنوات وأنا أنشد التغيير ولم أجده.. الكل حاول أن يعدل في سلوكي والكل فشل.. زوجتي أولادي حتى إخواني.. وكان والدي وأمي قبل أن يرحلا من الحياة؟!”. ينظر إليها مرة أخرى ويشخص النظر فيها.. ثم يردف مخاطبًا: “العالم قبل أن أركلك كان كئيبًا ولم أر جماله.. كنت أركض للخلاص من الحياة واليوم أنا ولدت من جديد.. هل نفخ ساحر داخلك تعويذة السعادة وانتقلت منك إلي”. يبتسم وكأنه يبتسم لأول مرة.. يواصل السير رافعًا رأسه وممتع نظره بما يرى حوله.
في نهاية الزقاق يمر على بائع الخضروات والفاكهة وقد بدأ في تحضير كشكه لاستقبال يوم جديد.. يبادره بالسلام: “صباح الخير يا عم”.. الرجل الكبير في السن ينظر إليه ويتقدم منه ليصافحه ويمد يده ويضعها في يده ويقول له: “سنوات تمر علي صباح مساء ولا في يوم ألقيت علي السلام.. كم كانت فرحتي كبيرة بحديثك معي اليوم”. في استغراب يرد عليه: “وهل كنت أمر عليك طول هذه السنوات ولم أحدثك حتى بالسلام فقط.. أصدق الحديث فأنا لم أرك إلا اليوم فقط!”. الرجل العجوز: “سبحان مغير الأحوال.. هل لي أن أعرف سر التغيير!”. يدس يده في جيبه ويخرج العلبة ويقدمها للرجل ويضحك: “هنا السر..”.
يمضي في طريقه تاركًا الشيخ دون أن يفهم شيئًا.. ربما عندما يعود مرة أخرى يسأله من جديد.. يمشي سريعًا ليصل بيته.. هناك في تلك البناية بآخر الشارع.. قبل أن يصل البيت يدخل المسجد.. كان موجودًا من قبل ولكنه نادرًا ما كان يدخله للصلاة. دخل والعيون تنظر إليه في دهشة واستغراب! لم ينتبه للجميع.. توجه للقبلة وصلى سنة الفجر وتناول مصحفًا قريبًا منه وبدأ يقرأ.. أكتشف أنه يجيد القراءة ومن حوله اكتشفوا حسن تلاوته.. الآذان كلها منصته له وكأنهم أول مرة يسمعون سورة الرحمن.. أقام الإمام للصلاة وتمنى الجميع أن لم يفعل.. قضى صلاته وحمل نفسه لبيته.. أهل بيته تعودوا على رجوعه المتأخر ولكن اليوم سوف يدخل البيت شخص آخر ليس ذلك الرجل الذي خرج منه!.
للقصة بقية في الجزء التالي بحول الله تعالى.