مقال : الفأل الحسن..
عفراء المياحية
في هذا الزمن ، تتوالى الكتب يوماً بعد يوم ، أغلبها تحت محتوى واحد، ” لا تحزن ، كن متفائلا”، وغيرها من الكتب التي دفعنا فيها أموالاً كي نعيش سعداء ، وبحثنا عنها كثيراً في معارض الكتب وغيرها ، كله في سبيل أن نكون سعداء دائماً وأبداً ، ولكن دائما ما نجد الواقع يخالفنا.
بعض الأحيان الواقع والأحلام لا يستويان ، لا يمكن خلطهما ، ولا جمعهما في إناء واحد ، لكن رحمة الله واسعة، فبرحمته يكرمنا بفرص وأيام جديدة ، لعلنا نستطيع فهم الواقع حتى وإن كان مؤلما ، طيلة حياتنا ونحن نبحث عن نبض في الحياة ، لنتشارك معه ، ونمضي معه سوياً ، هذا النبض قد يأتي على هيئة إنسان ، حلم، أمنية ، عمل ، كتاب ، نسعى لإيجاده كي نشعر بأننا أحياء .
يقول بابلو نيروادا:” يموت ببطء من لا يسافر، من لا يقرأ، من لا يسمع الموسيقى ، من لا يعرف كيف يجد شيئا بفضل عينيه”. لنكن ذات واقعية أكثر، نحن من نقتل أنفسنا حزنا، ونحرم أنفسنا سروراً، نحن من نعذب عقولنا بالتفكير، والقلب بالشهيق والزفيير، نحن من نظلم أنفسنا قبل ظلم الآخرين.
لو أدرك الإنسان أن الله خلق الماضي ليكون عبرة للحاضر ، لما ذرف الكثير من الألم ، وما بلع الكثير من الريق!!!
قال إميل حبيبي:” أستعيد الماضي لا لكي أفتح جراحاً، بل كي لا تذهب التجربة هباء ولا تعود الذاكرة عذراء”.
كثير من ذكريات الماضي المؤلمة تجعل الإنسان يسجن نفسه في داخل غرفته، وكأن الجلوس بين أربعة جدران يغيّر شيئاً له، لكنه لا يزيد سوى الجسم وزناً، والعين دمعاً، والقلب همّاً.
الحقيقة التي ليس عليها اعتراض هي أن الحياة دائماً ما تكون مستمرة في الخارج ، لهذا السبب نحن فعلاً نستحق أن نكون في الخارج، نستحق أن نسلك طرق مختلفة، نشتري ونبيع، نسأل، نضحك، نبكي ونمارس حياتنا في الهواء الطبيعي، لأن الحياة الدائمة في الداخل لا تستطيع أن تغير ولو شيئا بسيطا ، قال حكيمٌ: ” الطريق خيرٌ من المنزل”.
الناس الأقوياء هم من يستطيعون أن يجعلوا الماضي طريقاً معبّدا لهم ، يسيرون فيه بمفردهم، ويتعلمّون من ذواتهم ، الناس الأقوياء من يقفون مع الإنصاف والعدالة، من يقتلون الجريمة قبل وقوعها، هم من يؤمنون بأن ثمة معجزات ستأتي يوماً إلى طريقهم، وتطرق أبوابهم ثلاثاً، وربما سبعاً، وربما تسعاً ، هم من يؤمنون أن أسوأ الأيام هي خير الأيام، يؤمنون بأن الحياة أجمل بكثير، حتى وإن حملت في كفيها صعوبة الأيام، يطاردون الفرص في كل مكان ، وقت السحر، وفي السهر، وحتى في وقت نزول المطر، في الحقيقة نحن وُلدنا من رحم الأيام التي دام حملها سنوات لا تسعة شهور فقط ، يُقال إن الإنسان يتربى في الأيام السوداء ، و يتعلم في أيامه الصعبة، وهذا ما أشهد عليه في عصرنا الحالي ، عصر الجروح العميقة ، والآهات المؤلمة! .
قرأتّ ذات مرة أن شاباً أراد أن يتعلم اللغة الإيطالية ، ولم يكن يملك النقود ، فاضطر إلى المشي مدة عامين عبر الهند، وإيران، والعراق، واليونان، إلى أن وصل إلى إيطاليا ، الحياة في حاجة إلى محاربة ، والمحاربة لا تكتمل إلا بالعقل ، والصبر والشجاعة، المحاربة بحاجة إلى مناعة ضد الإحباطات والسخرية، هي بحاجة إلى أدعية في آناء الليل وأطراف النهار، حتى نصل إلى مبتغانا بتوفيق من الله، لا بد ان تتحول كل الأصوات المزعجة إلى صمت هادئ ، يُشعرنا بالأمان والراحة المستقرة .
أعجبتني أنشودة جميلة جداً، تبين أن السوفياتيين كانوا في الحرب العالمية الثانية ينشدونها، يقولون: إذا فقد الجندي ساقه في الحرب ، يستطيع معانقة أصدقائة، و إذا فقد يديه يستطيع الرقص في الأفراح ، وإذا فقد عينيه يستطيع سماع موسيقى الوطن، وإذا فقد سمعه يستطيع التمتع برؤية الأحبة.
أحيانا يَكْمُنُ التشاؤم في عدم ثقتنا بالله تعالى، لأننا نستمع إلى صوت شكوانا أكثر من صوت دعائنا، ننظر إلى دموعنا أكثر من ركوعنا وسجودنا ، أذكر ذات مرة ، كنتُ قد ذهبت إلى صالون لتصفيف شعري، وبينما كانت الفتاة الفلبينية تقوم بتصفيف الشعر، أخذنا نتبادل الحوار، فأخبرتها أنني مُعجبة بشخصيتها الشجاعة، فرغم أنها غريبة في وطن ليس بوطنها ،إلا أنها قوية وتبحث عن مصدر رزقها، فسألتها من أين لك مصدر القوة؟ قالت من دون تفكير: من الله طبعا !! تعجبت منها رغم أنها تعبد إلهاً غير الله، إلا أنها متمسكة به، ومؤمنة بأنه معها في حلها وترحالها، فقالت لي: عندما أتيت إلى عُمان للمرة الأولى كنت أرتجف كثيراً وأنا في المطار ، لا أعلم كيف أتصرف؟ كيف أتحدث ، فالجميع هنا مختلف عني تماماً، بشكله ، ولونه، ولغته، وحياته، وثقافته، إلا أنني كنتُ أدعو الله كثيراً ،وأتوسل إليه ليساعدني، وأبكي بألم كبير، وعندما أتيت، لم أتوقف عن الدعاء لربي، فأنا على يقين بأنه لا يمكن لأحد أن يساعدني غير الله.
كلماتها كانت كالماء البارد على صدري ، جعلتني أتذكر مقولة مارك توين عندما قال: “اِفعلْ أكثر شيء تخشاه وتخافه وسيموت الخوف داخلك”.
أحببتُ المرأة الفلبينية كثيراً، فهي مؤمنة بأنها ليست بمفردها، فالله معها، رغم وحدتها وغربتها، إلا أنها اختارت حياتها بثوابها وذنوبها، ووثقت بأفكارها وحياتها، وساندت قرارها بنفسها، وأغلقت عينيها، ومن ثم عانقت ماضيها ومشاعرها وأهلها من بعيد، متجهة إلى حياتها الجديد.