خلفان بن ناصر الرواحي
الجزء الثاني:
لقد كان حديثنا في المقال الأول عن أول محطة لرحلتنا بوادي حلفين التابع لولاية إزكي، وسوف نكمل حديثنا في هذا المقال عن بقية تفاصيل الرحلة.
لقد كانت محطتنا الثانية لحارة العين بقرية إمطي التابعة لولاية إزكي؛ حيث عبق تاريخ الأجداد وروعة هندسة البناء، تبحر بنا في ذكريات الماضي بين جنبات بيوت الطين، وسواقي الفلج، وجمال البساتين المزروعة بالباسقات والمزروعات، في لوحة مبهرة وفريدة تتميز بها معظم الحارات القديمة في سلطنة عُمان، فكثيرًا ما تجد أغلب مثل هذه الحارات القديمة قد هجرها أصحابها إلى المخططات الحديثة؛ وذلك لزيادة عدد أفراد الأسرة، ولظروف المعيشة المعاصرة، وأصبحت آيلة للاندثار، وربما تصبح من التاريخ المدفون بأسراره تحت الأنقاض كجزء من بقايا الماضي التي كانت ما قبل عهد النهضة الحديثة لسلطنة عُمان منذ بداية عام ١٩٧٠م التي بناها ابن عُمان السلطان الراحل قابوس بن سعيد رحمه الله.
نعم، إنها مكان جميل يذكرك بعراقة الهندسة المعمارية العُمانية؛ حيث إنها تتميز بطابع معماري هندسي يعكس مهارة الإنسان العُماني القديم، وهندسته في التصميم والبناء، وتجد ذلك واضحًا وجليًا في بوابة “صباح الصارم”، والممرات الداخلية، والمسجد، والمجلس العام، وفلج السواد، والتنور ومكان صناعة الحلوى، وكذلك المدخل والحائط والبئر، والبيوت الطينية البسيطة في مساحتها، والمميزة في تصميمها الداخلي والخارجي؛ حيث صممت لغرض تقلبات الظروف في ذلك الزمن، وروعي في تصميمها وبنائها ظروف البيئة المحيطة، وتصريف مياه الأمطار، وما يجب مراعاته من الناحية الاجتماعية، والثقافية، والاقتصادية، والمعيشية بوجه عام، وظروف كل أسرة وإمكانياتها بوجه خاص؛ وذلك من حيث المساحة وعدد الغرف، والمطابخ ومخازن التمور، وكل متطلبات الحياة الكريمة الخاصة بكل أسره بما يتناسب مع ظروف الحياة في ذلك الوقت.
تشهد حاليًا هذه الحارة مشروعًا تراثيًا وسياحيًا وثقافيًا من ترميم ما زال مستمرًا تقوم به الحكومة الرشيدة من فترة؛ حيث تم الانتهاء من بعضها مع إضافة بعض الجماليات، وسيكون لهذا المشروع الرائد دورٌ كبيرٌ كعامل جذب للمثقفين والسياح سواء من الداخل أو حول العالم إذا ما تم تسويقه بشكل صحيح، واستثمار رائد يحقق الهدف كمشروع وطني واقتصادي يعزز من تنوع الدخل والتعريف بالثقافة العُمانية والهوية الوطنية.
ومن خلال بحثنا والتقصي عن هذا المشروع ومموليه؛ اتضح أنه أطلق عليه “مشروع تخليد اللحظة الأثرية بالفن”، ويتواصل العمل بأنشطته الترميمية بحارتي العين والسواد بقرية إمطي بمبادرة من الفنانة التشكيلية العُمانية مريم بنت محمد الزدجالية وأهالي القرية، وبالتعاون مع الجهات الحكومية والخاصة؛ وذلك بهدف إبراز معالم بلد يزخر بتراث عريق وتاريخ يتوغل لآلاف السنين، والذي أسهم فيه الإنسان العماني ببناء القلاع والحصون والقرى الأثرية التي تشتهر بجمالها وهندستها الفريدة بتنوعها من حيث التخطيط العمراني والمواد المستخدمة في البناء؛ فهي مختلفة بين منطقة وأخرى، فبعضها مبنية بالطين وبعضها الآخر بالصاروج، كما أن أغلب الحارات القديمة تتميز ببنائها في الأماكن المرتفعة عن مناسيب مياه الأودية؛ تحسبًا لأي مخاطر قد تحدث نتيجة السيول الجارفة وحدوث الأعاصير.
يعدّ هذا المشروع من المشروعات الاستثنائية التي ستقدم أنموذجًا لتوظيف المواقع التاريخية في سلطنة عُمان، وشد الأنظار إليها، كما أنه يعطي دلالة على الاهتمام وتضافر من الحكومة والمجتمع، وهي -بلا شك- مؤشرات نحو الإحساس الفردي والجماعي بمسؤولية المشاركة مع الجهات الحكومية نحو إيلاء هذه المواقع الرعاية، وغرس قيم المحافظة عليها في فئات المجتمع المختلفة، وفي الأجيال الناشئة من طلبة المدارس والباحثين، وأفراد المجتمع جميعا، فالقرية الأثرية القديمة في سلطنة عُمان بصفة عامة هي بمثابة الكتاب الذي يحكي تاريخ ماضي الآباء والأجداد بما تحويه من أدوات تراثية تشهد على عراقة الماضي الأصيل، وصبر السنين وكفاحها.
فهكذا كانت تلك الساعة العابرة بالنسبة لجولتنا في هذه الحارة، عشناها بلحظاتها القصيرة لظروف العمل الترميمية القائمة فيها، وعدم اكتمال المشروع، ولكن -بحق- إنها كانت رائعة، ولمست فيها بعضًا من ذكريات الماضي المشابهة بحارتي القديمة.
للحديث عن هذه الجولة بقية، وسوف نكمله في الجزء الثالث والأخير، للحديث عن جولتنا في ربوع ولاية بهلاء العريقة.