اللغة العربية في يومها العالمي طموحات وأمنيات
د. محمد عزيز عبد المقصود
أستاذ لغويات مساعد بكلية اللغة العربية
جامعة السلطان عبد الحليم معظم شاه الإسلامية العالمية ماليزيا
الإيميل /mohamedaziz@unishams.edu.my
mohammadaziz1974@yahoo.com
عندما يهل علينا شهر ديسمبر/ كانون الأول المجيد من كل عام، وتحديدا في الثامن عشر منه يحتفل العالم باليوم العالمي للغة العربية؛ ذلك اليوم المشهود الذي جاء إحياء لذكرى اعتماد الجمعية العامة اللغةَ العربيةَ سادس لغة رسمية لها.
وقبيل هذا اليوم وبعده يبدأ الكتاب والمثقفون والشعراء وكافة المؤسسات والمنظمات المعنية بتقديم ما لديهم من أفكار ورؤى وأنشطة، والإسهام بها في احتفالات ومهرجانات سواء أكانت محلية أم عالمية من خلال مسابقات أو ندوات أو مؤتمرات أو منتديات أو غير ذلك في سبيل إظهار احتفاء يليق بلغتنا العربية الخالدة، وهذا مطلب مهم؛ لأن فيه إظهارا لقوة لغتنا وتأثيرها في المجتمعات المحلية والدولية.
ولغتنا العربية لغة غنية بثروتها اللغوية، وفنونها البلاغية الإبداعية التي لا حدود لها، ولا يدرك أهميتها وقيمتها إلا من أقبل على تعلمها وتذوق حلاوتها، واستشعر فضلها وخيرها؛ حينها سيجد أثرها في مشاعره ووجدانه وحياته عامة.
والأمر لا يقف عند إظهار ذلك فحسب، بل هناك مظاهر أخرى يمكننا الاعتناء بها، ومنها ما يأتي:
أولا: أن هناك علاقة وثيقة بين حفظ القرآن الكريم وإتقان مهارات اللغة العربية، فاللغة العربية تستقي من معين القرآن ألفاظها ومعانيها، وهي محفوظة بحفظه، يقول الله تعالى:”إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ”. (سورة الحجر: 9).
ولو أردنا أن نضرب مثلا لذلك، فأذكر أننا منذ شهور قريبة في هذا العام قمنا بزيارة لمعهد تحفيظ قرآن بإحدى مناطق ولاية قدح، دار الأمان بماليزيا، ولاحظنا هذه العلاقة الوثيقة بين حفظ القرآن الكريم وإتقان مهارات اللغة العربية، فمن خلال الاستماع لقراءة الطلبة لفقرات أُعدت لهم؛ وُجد أن أكثرهم يتقنون قراءة النص قراءة جيدة، ويتحاورون مع بعضهم حوارات لغوية فيها إبداع في الأداء، وتنوع في العطاء، وكثرة فياضة في الألفاظ والعبارات التي أنتجها الطلبة من خلال أنفسهم، وبعضهم كان يميل إلى استعمال مفردات قرآنية في سياقات وحوارات لغوية متنوعة، وهذا ما استرعى انتباهنا ولفت أنظارنا، ومن خلال سؤال معلميهم -وكلهم من الناطقين بغير العربية- قالوا: إن التدريب على حفظ القرآن الكريم، وكثرة النظر في كتاب الله تعالى جعل الطلبة يعرفون شكل الحروف بمجرد رؤيتها في أي كلمة؛ مما يسر لهم قراءة الكلمات بسهولة، وإن كانوا لا يعرفون معناها، ومكّنهم كذلك من فهم عملية التركيب اللغوي، ومن ثَمّ أسهمت في بنائهم المعرفي، وأكسبتهم ثقة في أنفسهم.
وهذا جعلنا- وكان أكثرنا من العرب- أن نتذكر تلك التجارب التي كانت وما زالت على استحياء في مجتمعاتنا العربية تهتم بمثل ذلك من خلال دُور التحفيظ (الكتاتيب) التي كان لها أثرٌ قوي في بناء أبنائنا ونشأتهم المبكرة مع كتاب الله ولغته، ونطمح في إحياء تلك التجارب التي شاهدنا مثلها في هذا المجتمع، وأدركنا أهمية ربطهم بكتاب الله تعالى خاصة في سنواتهم الأولى في المرحلة الابتدائية؛ لكي يتقنوا –مع حفظ كتاب الله- مهارات اللغة إتقانا محكما.
ثانيا: التدريب على فهم مفردات اللغة من خلال معرفة استخداماتها في سياقات مختلفة؛ وذلك في ضوء مهارة القراءة الواعية التي -للأسف- أهملها كثير منا معتمدين على معلومات متناثرة هنا وهناك من خلال وسائل التواصل الاجتماعي المرئي أو المسموع أو المكتوب، ويغلب على كثير منها عدم الدقة، والاعتماد على النقل من هنا وهناك دون التثبت من المنقول في كثير منه، ونسينا أو تناسينا قول المتنبي:
أعزُّ مكانٍ في الدُّنى سَرْجُ سابحٍ**
وخيرُ جليسٍ في الزّمانِ كتابُ
ونأمل أن يعيد كل منا هذه الصداقة والصحبة الخيرة التي كانت في زمن جميل مضى؛ إنها صحبة الكتاب!
ثالثا: أن يعمد المسئولون في كافة المؤسسات المعنية بتعليم اللغة العربية وتعلمها إلى ابتكار وسائل واستراتيجيات حديثة لتعليم اللغة العربية للناطقين بها وبغيرها، وتقديم مشروعات لغوية للنهوض بمستوى المتعلمين الذين يقبلون على تعلم اللغة العربية في كافة أرجاء العالم، وكذلك إعداد برامج تأهيل مناسبة لبناء كفاءات لغوية مؤهلة، وكوادر عِلمية عَملية تستطيع تعليم اللغة العربية تعليما يجمع بين الأصالة والمعاصرة، فنحن وإن كنا نفتقر إلى تلك الاستراتيجيات العصرية؛ فإننا نطمح إلى أننا نستطيع بعقول مبدعينا، وعزيمة معلمينا، ورؤى مسئولينا أن نقدم للغتنا الكثير والكثير، ونحن قادرون إن شاء الله.
رابعا: تقريب اللغة العربية لمتعلميها من خلال تطويرها وتنقيح مفرداتها وألفاظها، والبعد عن الخلافات الفكرية والمذهبية، فلغتنا قابلة للنمو والتطور والتكيف مع معطيات العصر، والتناسب مع أهدافها وقضيتها ومخرجاتها، ونطمح أن يهيئ لها من يتولى أمرها أملا في تقديم لغة حية تفيد المجتمع وتنهض به.
وأتمنى من الجهات المختصة والمؤسسات المعنية بشأن اللغة العربية من إعلام، ومجامع لغوية، ودُور الترجمة الهادفة، أن يهتموا جميعا بتلك القضايا والعمل على إيجاد مجالات تطبيقية في سبيل رفعة شأن لغتنا والارتقاء بها نحو مستقبل مشرق، فالمسئولية المنوطة بهم كبيرة، والآمال المعقودة عليهم أكبر.
تحية إكبار وإجلال لتلك اللغة التي تحيا بها نفوسنا، وتبث فيها طموحات وآمالا عظيمة، ونحن نعتز ونفتخر ونفاخر بها في كل زمان ومكان، فهي وعاء ثقافتنا وعنوان هويتنا، وتحية تقدير وامتنان لمتحدثيها من الناطقين بها وبغيرها.