خليفة السعيدي
تضج الأماكن باللافتات والصور والشعارات الرنانة ، أنا سأبني لكم جزرًا في البحر والآخر سأرسلكم للفضاء ، ويبقى المجلس هو المجلس ، كرسي وهمي يثبت وجوده فيه من يعمل فيه من أعمق أعماق نفسه لا رياء ولا خناجر مصفوفة على ناطحات سحاب في منتزه وضع فيه أرجوحتان…
تضج مواقع التواصل وجلسات النساء لتحليل الجنون الذي أصاب بعض الناس ودفعه لارتكاب جناية القتل ، وتشتعل البيوت بالترقب والتشجيع للفريق الذي سيحصل على بطولة ذلك الكأس المملؤ بالذهب ، فقط لأنهم يركضون وراء كرة بلهاء…
ولكن انتصار فريقك قد لا ينفعك بشيء، لكنه سيحقق لك شيء من الرضى اللحظي عن ذاتك المحبطة ، عن مشاكلك التي تتهرب منها ،أحوال الناس حولك، همومك وهمومهم، نعم بإمكان عقلك أن يأخذ فترة نقاهة.
لا بأس عليكم تعالوا أحدثكم عن عبدالرحمن العامل الذي يبيع العلف الحيواني في إحدى المَحَالّ التجارية بالقرب من منزلنا وطاولته الخشبية القديسة ، عبدالرحمن رجل أحسبه في بداية الأربعين من عمره، بشوش الوجه مفتول العضلات، دائماً ما كنت أمر عليه في أوقات الصلاة مفترشاً سجادة فوق طاولة خشبية كأنها محراب سماوي، خاشعاً ساكناً وكأنه يفرغ ما بداخله من خيبات ومرارات فوق هذهِ الطاولة، يرافق حدود هذا المشهد من بعيد جمال شريف طاهر يستوقف النظر وكأن عبدالرحمن يسبح في ملكوتٍ غير الذي نشاهده (فالأهم من سفر المكان سفر الوجدان بداخلك، فما نفع تبديل الأماكن وأنت أنت).
ظللت أستمتع بهذا المشهد وأرقبه إلى أن اختفى عبدالرحمن من فوق طاولته الخشبية مخلفاً فراغاً فاجعاً ومشهداً ناقصاً كمَن اشترى كرسي من إحدى مَحَالّ الأثاث، ولكن عندما وضعه في بيته كان منظره بشعًا وقبيحًا؛ نسيَ المسكين أنه عندما اشترى الكرسي، اشترى معه الإضاءة وجميع الديكور المحيط بالكرسي ليعطيه هذا الانطباع المبهر ، وعندما سألت عن عبدالرحمن قالوا لي أنه عاد إلى بلده ، عاد عبدالرحمن ولكن الطاولة الخشبية ظلت في مكانها تأن وتنتحب توقظ في الناس الذين تعودوا على مشهدها آمالًا ملتهبة تدفعهم لتحقيقها تذكرهم بعبدالرحمن وكفاحه وابتهالاته إلى أن اختفت ذات يوم كلياً …
ومع تدافع الأيام وزحمة الحياة، نسيتُ أمر الطاولة وعبدالرحمن إلى أن حضر المشهد في رأسي دفعة واحدة كمَن أصابني برصاصة في الذاكرة ، عندما دخلت بيت أحد الجيران ورأيت الطاولة الخشبية القديسة شاحبة حزينة تحط فوقها الكثير من الصحون والمواعين والصفاري ….
