قرية وادي حودل ومسجدها الكبير
أحمد بن سليم الحراصي
(في الغالب، أنا لا أكتب إلا عندما أجد موضوعًا يستحق الكتابة عنه، وعندما أجده فغالبا ما تراني أدخل في أسباره).
سأخبركم هنا عن قصة غامضة وبين ثناياها سطور ناقصة، عن أهدافٍ لم يكن تحقيقها مستحيلًا، وعن قريةٍ متقاربة الأطراف، فما بين أرض سهلة تجد أرضا وعرة، وما بين سهل وآخر يقطعهما وادٍ لا يمكن أن يلتقيا، تُذكرني هذه العبارة بالآيتين 19 و20 من سورة الرحمن في قوله تعالى: (مَرَجَ البَحْرَينِ يَلتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ)، هذه القرية التي ظلت صامدة رغم عوامل النحت والتعرية التي مرت بها طوال السنوات الماضية، لم تغيرها الظروف وتأكلها الجروف، بل ظلت خالدة وأخالها هكذا ستظل سرمدية البقاء.
قرية (وادي حودل) التي لا يتعدى عدد سكانها الخمسين نسمة، ها هي اليوم تكتسي بحلة جديدة، تلك القرية الصغيرة التي تتكون من خمسة بيوت كلها متفرقة، وما بين بيت وآخر توجد أودية فاصلة بينهما، ولكن؛ ولعل السر يكمن في عزيمة أهلها النجباء وعدم قنوطهم في البحث عن فضاء أرحب وأوسع لهذه القرية؛ ولأنهم آمنوا بأن هذه القرية قادرة على أن تتطور، وبإمكانها أن تصبح حلقة وصل ونقطة تجمع للكثير من سكان المناطق المجاورة ، وأنه لا مستحيل يقف حاجزًا في تحقيق ما تصبو إليه العزيمة والإصرار؛ ولذا كان عليها يومًا أن تتحرر من سجنها وتكسر القضبان، وهذا ما رأيته أنا وشاهدته؛ ولأنها قريتي التي عشت فيها وسأعيش، والتي علمتني الصمود كصمود جبالها وصلادة جلاميدها؛ فالأمل كان دائما شعارها والقنوط واليأس ظهارها.
كانت القرية معدومة جدا من أبسط حقوقها؛ فخطوط الكهرباء لم تصل إلى القرية إلا في سنة 2002، حينها استبشر الجميع في فتح طريقٍ معبدٍ يصل بهم بأمان إلى مركز المدينة، ولكن الأمر ظل سنين طويلة دون أن يرى النور إلا في العام 2020 الذي بدأت فيه الحياة تدب؛ فجاء الطريق وجاءت شبكة الاتصالات معه؛ ولعل السبب في هذا هو اهتمام الحكومة في إثراء السياحة للمهتمين بالشأن التأريخي العماني والآثار؛ فقد تمّ ترميم قصر المنصور الذي جذب الكثير من السياح للتعرف على هذه القرى، ومن المهم أن نعرف هنا أن قرية (وادي حودل) هي إحدى قرى المنصور التي ستصبح نقطة الانطلاق – بحول الله- ولكن كيف؟
{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ ۖ فَعَسَىٰ أُولَٰئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)} سورة التوبة.
إن المهم والأهم هو أن أذكر هنا وجود المسجد الكبير الذي تم إعادة بنائه قبل أن يكون مجرد مصلى صغيرٍ؛ حيث يُشكِّل هذا المسجد نقطة التحول لهذه القرية التي جذبت الأنظار لها؛ فالقرية لم يكن بها مصلى أساسًا، كان الجميع يصلي صلواته الخمس المفروضة في بيته، ثم بحمد الله وبجهود أحد الخيرين، فقد قام -جزاه الله خيرًا- على نفقته الخاصة وبمساعدة من تبرعات وجوه الخير ببناء مصلى للرجال وآخر للنساء، مصلى صغير؛ لكنه كان يفي بالغرض مقارنة بحجم القرية وعدد ساكنيها ولفقر الخدمات حولها.
ثم تقرر إعادة بناء المسجد ليصبح مسجدًا كبيرًا برفقة محل بقالة صغيرٍ، فقد تمت إعادة بنائه كصدقة جارية عن روح المغفور له -بإذن الله- محفوظ بن سعد العارضي على نفقة ابنته التي كانت مثالًا للبر بوالدها -رحمه الله- فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: إِذَا مَاتَ ابنُ آدم انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أو عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ، فجزاها الله خيرًا وجعلها صدقة جارية وابنة صالحة لوالدها -رحمه الله وغفر له- كُتبت هذه العبارة على قطعة من الرخام خارج المسجد؛ حيث تم افتتاحه في غرة رمضان لعام 1442 هـ، الموافق له 13 أبريل لعام 2021 م والذي صادف يوم الثلاثاء.
موقع المسجد مناسب جدًا؛ حيث إن موقعه يتوسط القرية، والمسجد كبير مقارنة بمسجدي الغيل والمنصور؛ حيث تصل مساحته نحو 300 مترٍ مربعٍ، ويتسع لنحو 400 مصلٍ ، كما يوجد أيضًا مصلى للنساء، وهذه من الأسباب الرئيسية التي جعلت من الأهالي في التقدم بطلب للحصول على موافقة لإقامة صلاة الجمعة من وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، وبناءً على ذلك؛ فقد تم الرد على سعادة محافظ جنوب الباطنة بالموافقة على إقامة شعيرة صلاة الجمعة في مسجد وادي حودل في 23 نوفمبر الماضي. وبموجبه ستُقام أول صلاة الجمعة في هذا المسجد في يوم 22 من جمادى الأول الموافق له 16 من ديسمبر؛ حيث سيجتمع فيه المصلون من جميع سكان مناطق الغيل والجفر والوقيبة إضافة إلى سكان قرية المنصور (القرية الأم) ومرابط الخيل، على أن يؤم المصلين ويلقي خطبة الجمعة الفاضل/ علي بن خميس بن عبدالله الحراصي.
إن هذا الدور الذي قام به الأهالي يُحسب لهم كنجاحٍ حقّقَ مكاسب كثيرة أهمها: اجتماع الأهالي مع بعضهم كل أسبوع للتعارف والتكافل الاجتماعي وتفقد أحوالهم، كما أنه سيسهم في تنمية المنطقة ويساهم في تطويرها، إضافة إلى توفير الوقت والجهد في الذهاب بعيدا لأداء صلاة الجمعة؛ لأن الكل كان يقطع مسافات طويلة كل أسبوع يوم الجمعة لأدائها في أماكن أخرى، فبارك الله في الجهود والمساهمات التي لولاها وبتوفيق من الله لما قام هذا الصرح الكبير ليلتم شمل أهلها آباءً وأبناء وتكون لهم البصمة الخيِّرة في هذا التوفيق والنجاح.
إنها حقًا قصة غامضة، فمَن كان ليتصور بأن قرية تضم خمسة بيوت قادرة على أن تكون النواة المركزية في خلية كبيرة تضم مناطق أكبر منها؟، لكنها استحققت هذه المكانة نظير موقعها الاستراتيجي فهي حقًا في موقع جغرافي مميز يتوسط هذه القرى كلها، فعسى أن تكون هذه البداية خيرًا لنا جميعًا ومفتاحًا للأبواب المغلقة والأقفال الصدئة في قادم الأيام.