مقال : رمضان برائحة الصيف ونداء السحر
مهنا بن صالح اللمكي
وقفت على ضفاف فلج الميسر بعلاية الرستاق وجامعها العريق الذي يحوي مدرستي القديمة للقرآن الكريم فسال لعاب الذاكرة والقلب معجون بماء الحنين لتلك الأيام المشرقة من العمر.
الفلج يسير كما عهدناه منذ تلك العقود كما حفظنا انسيابه في السواقي والمنحنيات والبساتين ، كان شيابنا يقفون على الصوار يترقبون موعد حصتهم من الماء ، وفي حارة اللمد بعلاية الرستاق هناك غرفة مسؤول الفلج ويسمى وكيل الفلج ، وكذلك يسمى ” المحيضري ” لإرشاد أصحاب الفلج عن المواعيد القادمة إذا نسي أحدهم .
لم يعد أحد منهم هناك إلا ما ندر ، لقد حلت محلهم العمالة الوافدة.
وللوالد العزيز على امتداد سير الفلج من منزلنا إلى حلة الخبيب آثار مطبوعة على قدميه تحكي لنا عمق الصلة التي جمعتهم بحب الأرض وحكاياتهم في تلك الدروب ذهابا وأيابا ، ورغم أنها لا تفصلنا سوى أيام قليلة عن شهر رمضان الكريم لا أكاد أجد الرائحة القديمة للشهر والتي كنا نجدها من نهاية شهر رجب وبداية شهر شعبان ، حيث الإستعداد للشهر الفضيل رغم الأمكانيات البسيطة .
وفي رمضان افتقدنا لتلك الأيام العبقة من لياليه الفضيلة ، حيث جاء هذا العصر ليريحنا ، لكن متعة التعب أبقى في الروح وفي القلب ، ولواهب الغربي لا زالت في حلقنا مهما استرخينا تحت نسائم التكييف.
ونداء السحر للوالد المرحوم أحمد بن مالك المعولي لا يزال يتردد في أذهان أهالي حارة قصرى وما جاورها حيث الهدوء يعم في ليالي تلك الأيام من الشهر الكريم والنوم فوق أسطح المنازل أعطى للروح فسحة التأمل في الفضاء الواسع وحاسةالسمع في ذروة نقائها حيث لا صخب مزعج ولا حتى أضواء تعكر متعة النظر للنجوم .
ركعات التراويح في مسجد طيني على شرفات النخيل والأفلاج أندى في أرواحنا ونحن نغالب كثرة الصفوف في الجوامع الكبيرة والزحام المتدفق من البشر.
حبات الرطب مع اللبن أضحت حائرة وسط مائدة الأفطار الممتدة ، والصغار يتأففون من محدودية مايعرض أمامهم ، مع أن عشرات الأنواع والأصناف دخلت مائدة الأفطار فألقت بدسامتها القوية لتزيد من أمراض العصر.
ورغم عمري (الأربعيني) لكنني عشت زمنين ، حياة بين عصرين ، واحد محسوب على الأمس ، وآخر على اليوم ، وبحكم السن فإنني من أولئك الذين يبحثون في أنفاق الأمس ، ويشعرون أنها حقول جميلة رغم كل شيء ، تلك البساطة الخالية من التعقيد ، الحياة (اللطيفة) مع أنها قاسية .وخشنة .