2024
Adsense
مقالات صحفية

حقيقة السحر الأبيض…!

خلفان بن ناصر الرواحي

حقًا، إنه السحر الأبيض الذي يكسب به المرء قلوب البشر، إنه الإنصات؛ فالإنسان المنصت هو العاقل والكيس الفطن الذي تستقبله مشاعر الناس بكل ود واحترام، ويكون ذا شأن، ومحترمًا في بيته وأسرته ومجتمعه، وحتى خارج نطاق ذلك المحيط، فأينما تجده تجد صيته وقيمته حاضرة، ويشار إليه بالبنان، ويحظى بثقة الجميع، وذلك كله مشروط ببعض المميزات التي ينبغي التنبه لها، ولا ينبغي الاستعجال في الحكم واتخاذ القرار قبل التأكد من مطابقة الواقع المعايش الذي يثبت تلك الحقيقة بعد أن نستمع لها من أي طرف مهما كانت الظروف والمبررات.

لقد تغير كل شيء في حياتنا اليومية الحالية، وحياتنا لم تعد كما كانت عليه بالأمس، فأصبحنا نفتقد مهارات كثيرة في حياتنا الخاصة والعامة، أثرها كان ملموسًا ومعايشا، وأكثرها كانت تلعب دوراً أساسياً في علاقاتنا الأسرية الاجتماعية، ومنها قدرتنا على الإصغاء الجيد لمن يتحدث إلينا، أو ما يسمى (بالسحر الأبيض) دون مقاطعة أو تذمر، فأصبح بعضنا يكره الاعتراف بذلك الواقع المرير الذي وصل إليه، ولكنها الحقيقة المتجاهلة، أو المنسية التي لا يحبونها، ولا يمكن الاعتراف بها.

نعم، تلك هي الحقيقة والواقع المعايش في عصرنا الحالي، فلم يعد الغالبية منا مستمعًا جيدًا للآخرين كما كنا نفعل في السابق، ونختلق الأعذار الواهية التي تشفع لنا، ويدعي بعضنا أنه لا يملك الوقت الكافي؛ لكي يستمع حتى يفهم أفكار من يتكلم أمامه ومشاعره، ووصل بنا الحال أيضًا بأننا لا نملك قوة التحمل والصبر؛ لكي نخوض تلك الحوارات التي تتسم بمراعاة البعد الإنساني والوجداني والفكري لمن يتكلم، وهو يلتمس منا الإنصات، ويريد منا أن نستوعب ما يجول في عقله وقلبه؛ لكي نتشارك معًا في إيجاد السبيل والحل المناسب لما يدور في باله للخروج بالقرار المناسب، حتى وإن كان ذلك الحوار لا يأخذ منا الكثير، أو لا يكلفنا الثمن المادي في بعض الأحيان.

لقد وصل بنا الحال والوهم المفرط بأن الوقت لدينا يداهمنا، وهو المسيطر على المشهد المعايش في حياتنا العصرية، فلا مجال لدى الغالبية؛ كي يقرأ مفردات وفهم ما وراء الكلام أو ما بين السطور واستيعابه، فالغالب مِنّا على عجلة من أمره، وواقع -لا محالة- فريسة في كثير من الأحيان بسوء الظن بالآخر نتيجة استباق الفهم، والحكم على الأمر دون كياسة، والبعد عن واقع الحال الذي يمكن أن يوصلنا لمعرفة الحقيقة، ويتخذ كثيرًا سلوك اللامبالاة؛ للتملص من تقبله الاستماع للآخرين.

ولو أخذنا مثالًا من حياة سيد الخلق، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، لكنا في سلام، ولساد الترابط الأسري والاجتماعي بيننا، فقد كان عليه الصلاة والسلام مستمعًا لأزواجه، وصحابته الكرام وعامة الناس، وله عدة مواقف عظيمة في هذا الشأن، ونذكر منها على سبيل المثال ما حدث في صلح الحديبية عندنا حزن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعدم قيام المسلمين بأمر التحلل من الإحرام، فهو يرى أنهم يأتون إلى مكة وكلهم شوق لرؤية بيت الله الحرام؛ وذلك بعد رفض أهلها، فأشارت عليه أم سلمة -رضي الله عنها وأرضاها- بأن يتحلل هو أولًا، فأصغى الرسول عليه الصلاة والسلام لنصيحة أم سلمة، وفعل ما قالت، فاقتدى صحابته عليه الصلاة والسلام به، وكان ذلك الفعل -الإنصات- أثره البالغ في طاعة المسلمين له، فترك لنا الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- هذه القيمة العظيمة في مبدأ المشورة، والأخذ بالنصيحة، والاستماع للآخرين. يقول تعالى في سورة التوبة: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ* فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (128ـ129). وتلك هي صورة النبي الإنسان في خلقه العظيم، ومشاعره الرقيقة التي تنساب بالحنان والعاطفة على الناس من حوله، ويجدون لديه القلب المفتوح الذي ينفتح لكل علامة استفهام تدور في أفكارهم، ليجيب عنها بكل محبةٍ وعمقٍ وانفتاحٍ، وهو الذي يتيح الفرصة للضالّين أن يلتمسوا الهدى عنده، فلا يتعقّدوا من أسلوب ولا يتشنّجوا من نظرةٍ، بل يواجهوا ـ بدلاً من ذلك ـ النظرة الحنونة، والابتسامة المشرقة، والكلمة الطيبة، واللفتة الحلوة؛ ومن ثمّ يقتربون إليه طوعًا بالجوّ الحميم، قبل أن يقتربوا بالفكرة العميقة الموحية، فيكون هذا الجوّ هو المدخل المناسب الذي يتيح للفكرة أن تلج إلى القلب، وتتحرك في العقل دون تكلف أو تنمر، فهو منهاج الحياة والمودة والتعايش بين البشر.

لهذا، علينا أن نعلم جيدًا، ونعي تلك الحقيقة الغائبة في ممارساتنا الخاصة والعامة في هذا العصر المتسارع، بأن اللامبالاة وعدم الإنصات للآخرين وتركه يكلفنا الكثير في حياتنا الخاصة والعامة، ويخلق مشكلات ومسافات بين الناس، ويضر بالعلاقات الاجتماعية على اختلافها، ولنعلم أنّ أكثر الطرق فاعلية ونجاحًا لكسب القلوب وللتقرب من الآخرين وكسب ودهم، والمحافظة على الكيان الأسري، أو الارتباط في صداقات وعلاقات طيبة مع الآخرين؛ هو أن نكون مستمعين ومنصتين إليهم، متحلين بالصبر، وتفهم الأمور بذكاء عاطفي يوصلنا لكسب القلوب، فأصبحت حياتنا تفتقر لذلك السلوك، وأصبح هذا السلوك عملة نادرة، والقليل مِناّ ممن يمارسون هذا -السحر الأبيض- والمتمثل في ممارسة مهارات الاستماع والإنصات الجيد.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights