دوامة الحياة / الفصل الخامس تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
سليمان بن حمد العامري
خرج عيسى مسرعًا ليبشر أبا سارة٬ بتحسن ابنته التي أوشكت غيبوبتها أن تصبح ثلاثة أشهر٬ وعند وصوله إلى البيت وجد محمدا (أخ سارة) بجنب باب السور٬ فنادى عيسى: يا محمد، أين عمي؟
– في غرفته.
= هيا لندخل لنبشره ونسعد قلبه.
– بماذا تبشره يا عيسى؟
= بتحسن سارة.
– هل سترجع سارة يا عيسى اليوم، اشتقنا لها كثيرًا؟
= إن شاء الله قريبا، يا محمد.
وعند دخول عيسى ليبشره بالخبر المفرح، الذي أنساه كل أمر عصيب٬ فنادى بصوتٍ عالٍ يا عمي، أين أنت؟
ابنتك بخير ولله الحمد، وهي في تحسن يا عمي…
في لحظة، حلّ الصمت، انقبض قلب عيسى لوهلة، على غير العادة لا صوت لعمه، سأل محمد عنه…
=يا محمد لا أسمع صوت عمي٬ لعله ليس هنا.
– لا يا عيسى، إنه هنا في غرفته٬ لم يخرج اليوم، فقد قال لنا إنه متعب، ويريد أن يستريح قليلًا.
طرق عيسى باب الغرفة، لم يُجب أحد، نادى عليه هو ومحمد، وأيضًا لم يُجب أحد.
بدأ إخوة سارة بالبكاء٬ عيسى توتر، وجبينه يتصبب عرقًا، كيف يحتوي الموقف، ولا يعلم كيف يتصرف؟!
أي مصيبة التي تنتظرني اليوم، أي حال الذي سنصل إليه؟ يا رب، خيرًا يا رب، ليكن لخير، كان يدعو ويتمتم عيسى بدعائه ومناجاته لله أن يلهمه الصبر والحكمة.
سأل عيسى محمدا مرة أخرى، هل أنت متأكد أن عمي في الداخل ولم يخرج؟
رد محمد: متأكد، أخبرنا أنه سينام قليلًا، ولا يريد أن نزعجه.
طلب عيسى من محمد أن يبتعد عن الباب قليلًا، ومن إخوته أنهم ينتظرونه في الأسفل، وألا يخافوا، فلن يحدث أي مكروه.
عدّ عيسى للثلاثة، ومن ثم دفع الباب بكتفه لكي يفتحه، لم يفتح… أعاد الكرة بقوة أكبر، لم يفتح أيضًا…
قرر ركله بقدمه وأخيرًا، فتح.
فتح الباب، فوجد عمه مُمَدّدًا على السريع، ظن أنه مستغرق في نومه، فاقترب منه ووضع يده عند أنفه ليرى إن كان يتنفس، لا يوجد هواء، حاول الاستماع لنبضات قلبه… ضعيف جدًا.
محمد شحب لونه، أمسك بعيسى، وسأله عن والده هل به شيء؟
عيسى: لا تخف يا محمد، أنت قوي…
أريد منك أن تجلب لي “كرسي متحرك”…
أحضر محمد الكرسي لعيسى، فحمل أبا سارة ووضعه على الكرسي، وطلب من محمد أن يبقى مع إخوته وأن يطمئنهم.
محمد بعمر العاشرة، وهو الأكبر بين إخوته، جالس بينهم يحاول أن يخفي خوفه، وأن ينزع الخوف من قلوب إخوته الصغار.
تساؤلاتهم الكثيرة عن والدهم وخوفهم من فقده، فقد فقدوا أمهم منذ فترة وجيزة، ولم يبرأ بعد الجرح الذي في قلوبهم.
وضع عيسى والدهم في السيارة، وقبل أن يتحرك بالسيارة ركض صغيرهم إلى عيسى، وقال له بعيون خائفة مليئة بالدموع وصوت يحاول أن يتماسك: “بابا في أمانتك يا عيسى، نريد أن يرجع هو وسارة معا”.
عيسى وهو يحاول أن يتماسك أمامه: لا تخف يا صغيري، سنعود -إن شاء الله- معا.
ركض الأطفال إلى أخيهم، ووقفوا ينظرون إلى السيارة وهي تبتعد، اختفت السيارة عن أنظارهم، فأخبرهم محمد أن والدهم سيحزن إن شاغبنا وحتى يعود والدنا إلينا؛ يجب أن نجلس وندعو الله أن يرده إلينا.
وصل عيسى إلى المشفى، بسرعة نادى المسعفين، فهلموا إلى السيارة، ووضعوا أبا سارة على الناقلة، وزودوه بجهاز التنفس بسرعة ركضوا به إلى الداخل.
عيسى ينتظر خلف الباب، وينظر إلى الداخل، تدخلات الأطباء لا تتوقف، هذا يقوم بإجراء تنفس اصطناعي، وذاك يضع محلولًا له، وآخر يستخدم جهاز ضربات القلب، الكل يحاول في الداخل.
بعد ربع ساعة ابتعدوا عنه، ونظروا إلى المؤشرات الحيوية، لم يعرف عيسى هل وصلنا إلى النهاية؟
هاتف عيسى يرن، ينظر إلى شاشة هاتفه، فيجد أنه البيت، بيت سارة.
رد على الهاتف، السلام عليكم.
محمد: أخبرني يا عيسى، كيف أبي؟
صمت قليلًا، عيسى أنا بعيد عن إخوتي، أرجوك أخبرني بكل شيء أنا كبير.
عيسى: أي امتحان هذا يا الله، قال في سره، ومن ثم حاول أن يلتقط أنفاسه ويستجمع قواه؛ ليتمكن من إخبار محمد أن والده بخير، أنت يا محمد ولد قوي وشجاع، عليك اسمعني جيدًا…
خرج الطبيب من الغرفة: فنادى من مع هذا المريض؟
عيسى قطع حديثه مع محمد: أنا، تفضل يا دكتور…
كان يريد عيسى أن يغلق الهاتف؛ حتى لا يسمع محمد أي مكروه بلا تمهيد؛ فهو طفل صغير.
أراد أن يكتم المحادثة، حتى سبقه الطبيب، فقال: اطمئن، الحمد لله وضعه مستقر وهو بحالة جيدة، ضغطه كان منخفضًا؛ مما تسبب في إغمائه.
تستطيع الدخول ورؤيته لمدة خمس دقائق فقط…
شكر عيسى الطبيب على جهوده، وأراد أن يدخل، ولكنه أكمل حديثه مع محمد، فسأله: سمعت بأذنك أن والدك بخير؟
أنا سأدخل عنده الآن، سأخبره أنكم بانتظاره، سمع عيسى أصوات فرح أبناء عمه وسعادتهم بهذا النبأ.
بابا بخير، بابا حبيبي بخير، نريد أن نكلمه، نريد أن نراه، متى سيعود؟
هل سارة بجانبه؟ محمد بصوت حازم لإخوته: هدوء يا أحبائي، اجلسوا مؤدبين حتى نذهب بسرعة إليه.
جلسوا حينها بأدب، وقال محمد لعيسى: أرجوك، كن على تواصل دائم معي، وأريد الاطمئنان على أبي، لو سمحت.
عيسى: حاضر، سأجعلك تطمئن عليه في أقرب وقت، وربما نذهب معا لزيارته.
محمد: في أمان الله يا عيسى.
دخل عيسى إلى عمه، وكان يبدو عليه علامات التعب والإرهاق، فأمسك بيده، وحمد الله على أن الله رد له عافيته وأنه الآن يكلمه، فقال أبو سارة: إن موت زوجتي قد كسر ظهري، وما أصاب سارة أهلك بدني، أحاول أن أتماسك، ولكني ما عُدت أقوى …
أسكته عيسى قائلاً: أطال الله في عمرك يا عمي، سارة بانتظارك، فهي تتحسن وقريبًا ستخرج، وهذا ما كنت أريد إخبارك به، وأطفالك الصغار ينتظرون عودتك إليهم، تماسك يا عمي، فأنت كبيرنا ونريدك أن تفرح بزواج سارة، وتخرج أولادك من الجامعة، أمامك الكثير من الأيام الحلوة لتعيشها.
أكمل أبو سارة: ذهب من العمر الكثير وبقي القليل، أوصيك بسارة وإخوتها، أنت سندهم، وأنت بعون الله ستكون مكاني في حياتهم.
نزل عيسى على ركبتيه، وأمسك بيدي عمه، وقال: تفاءل يا عمي، كنت قويًا وما زلت قويًا، نحن بانتظار وقوفك على قدميك، قُل يا عمي: الحمد لله، وادعوه أن تمر هذه المحنة على خير… ما هو إلا ابتلاء ليقيس مدى إيمانك وصبرك.
بدأ عمه يحمد الله ويشكره على كل حال بصوت يتضاءل رويدًا رويدًا، حتى اختفى وأغمض عينيه، وأرخى يد عيسى…
يتبع…