2024
Adsense
أخبار محلية

سفر من نوع آخر (إلى عمق الطبيعة)

محمود بن خلف العدوي

 

إن الإنسان بطبيعته البشرية توّاق للسفر، السفر الذي يمثّل عملية انتقاله من جغرافيا إلى أخرى، ليريح نفسه وعقله لفترة زمنية معيّنة، ولتعيد له توازنه ككائن بشريّ، لتساعده في التخلّص من السموم، سواء المادية أو الروحية. ولكن السفر لا يقتصر على أن تركب طائرةً وتحلّق من مدينتك إلى مدينة أخرى خارج جغرافيّة وطنك، أو أن تقطع مسافةً طويلة بالسيارة. إن السفر الذي نتحدث عنه في هذه السطور، هو السفر إلى عمق الطبيعة، وإلى تفاصيلها الجميلة، هذا السفر الغير مُكلِف مادياً، ولكنه يتطلّب تكليفاً روحياً، لنتعرف على ذواتنا ككائنات بشرية. كائنٌ خُلق لهدف أسمى، هو عبادة الله وحده لا شريك له.

جميلٌ أن تسافر وتغترب قليلاً، إلى عالَم لغة الصمت والسكون، اغتراباً في ذات الجغرافيا التي تعيش فيها، اغتراباً إلى واقع تلامسه بيدك، وتسمعه بأذنيك، وتراه بعينيك، إلى عالَمٍ تفقد فيه ذلك العالَم الواقعيّ، لتخاطب الطبيعة بلغتها وبتصرفاتها، لتتوغّل إلى روحها الجميلة بشيء من الخيال.

ولتحقيق الغاية، يستوجب على الراغب في السفر إلى عمق الطبيعة، الاستعداد الرّوحي، لينتقل من عالَمه الواقعيّ المضطرب المليء بالضجيج والضوضاء والتناقضات البشرية، إلى عالَم من النقاء والصفاء والهدوء والسكون، الذي يحفّزه إلى التأملات الكونية، وإلى طرح التساؤلات الداخلية، ليتمكّن من العيش مع اللحظات التأمليّة بكل تجليّاتها وتفاصيلها الجميلة، وليزول عنه الشكّ الذي ينتابه بين فترة وأخرى.
عليه الانصهار مع الطبيعة وكأنه جزءٌ منها.

هذه الفترة الزمنية من السفر تتطلّب من المسافر أن يخلع ثوب التناقض الذي يعيشه، مثلما يخلع ثوبه المتعارَف عليه، عندما يقرّر السفر إلى مدينة خارج جغرافيّة وطنه، أن يطهّر ذاته الداخلية من الحسد والحقد والبغضاء والكراهية، مثلما تفعل قطرات المطر وهي تغسل وتطهّر الأشجار من التراب العالق في أوراقها لتبدو خضراء نضِرة، تسرّ الناظر وتأسره ببريقها غير المخادع.

عليه أن يعرف كيف ينفصل ويفكّ ارتباط تفكيره بملذّات الدنيا ومُتَعها الزائلة ليعرف حقيقة الطبيعة وخالقها المبدع.

هذه الطبيعة التي تعطينا درساً في الجمال والأخلاق، هذا المزيج بين الجمال والأخلاق يجعلنا نعيش الدنيا بالإنسانية الرحيمة، الإنسانية السمحة التي ترى بأن الكون فيه خيراتٌ تكفي متى ساد فيها العدل بين الإنسان ونفسه، وبين الإنسان وغيره من الكائنات.
إن السفر إلى عمق الطبيعة يساعدنا على فكّ تلك الطلاسم التي كوّنتها الحياة الواقعية لكثير من التناقضات التي نعيشها مع أفراد آخرين، فهي تمنحنا الأدوات لفكّ ذلك الّلغز الحائر:

لماذا نعيش التناقضات بين الأقوال والأفعال؟
وبين ما نؤمن به وبما نطلبه من الآخرين أن يؤمنوا به، أو يعتقدوا أنه أمرٌ صحيح أو خاطئ؟
هذا الطبيعة التي تمنحنا العزلة في التفكير المنفرد بعيداً عن ضغوطات الكائنات البشرية في تحديد مسارات حياتنا والقرارات الفردية. الطبيعة التي تعرف أن للإنسان حرية الاختيار في نطاقٍ محدود، وبما لا تتعارض مع الدين الإسلامي أو تلغيه ككائن بشري يتمتع بالعقل، يفكر ويتأمل ويسأل ليزول عنه الشكّ باليقين، وتزول عنه الأسئلة الحائرة بالأجوبة الشافية.

تجعلك تتخلص من بعض الأغلال والقيود المجتمعية، بالفرار منها نحو الحرية الذاتية والتفكير الذاتي المستقلّ بعيداً عن كمية الأحاديث والنصائح التي تتلقاها عندما تُحاط بمجموعة من الأشخاص في مكان تحدّه الجدران من أربعة زوايا، تتخلص من بعض الوجوه التي تضفي للمكان كآبة في كآبة، وعندما تنعزل في زاوية في ذات المكان وتقرر عدم خوض الحديث معهم، تصبح في نظرهم كائناً بشرياً شاذاً، أو تقرر في قرارة نفسك ألّا تشاركهم الابتسامة لشيء لا ترى فيه علاقة تجعلك تبتسم، سوى أنها مقيدة بقيود المجاملات، لمصلحة ما، لمن ألقى بتلك النكتة أو الحديث. هنا تجد نفسك منزوع الحرية كإنسان يريد أن يكون مستقلاً بتصرفاته، فتشعر بأنك زائرٌ من كوكب آخر.

تلك اللقاءات بين الكائنات البشرية في بعض الأحيان ولربما أكثرها يكون قاتلاً عندما تجبر النفس على مقابلة وجوه ترى فيها الكبرياء والتعالي، ترى فيها نزع الكائن المادي، المتسلط على حديث الآخرين، أن تجبر على الصمت وأذنك يتدفق إليها ضجيج نفاق الأحاديث، وهي تخرج من بعض أفواه الحاضرين، وإذا نطقتَ وقلت رأيك بحرية إنسان وفي نطاق أدبيات الحديث والكلام، لا أحد يلتفت إليك أو يؤيد ما قلته ولو كان صحيحاً في نظرهم، لأنك ليس لديك علاقة بالقوة الرمزية المؤقتة، أو أنت جزء منها.

الغريب في الأمر عندما يغادر أولئك الذين يمثلون القوة الرمزية المؤقتة، يعود التكوين الإنساني لدى بعض الحاضرين، فتجده إنساناً آخر، مختلف عن ما كان عليه قبل ذلك، فيتحدث معك ويؤيد ما تقوله وما تطرحه من أفكار، لا أعرف كيف لمثل هؤلاء أن تتلون ذواتهم بألوان التناقضات؟ هل الحياة فعلاً تتطلب منهم ذلك؟ أم هو مجرد إثبات للآخرين علاقتهم بالقوة الرمزية المؤقتة؟
لذا، فالطبيعة تمنحك أن تعيش الإنسان البسيط دون تكلّف أو تصنّع، لأنك إذا فلعت معها ذلك، فلن تشعر بوجودها، فهي لا تنظر أو تسأل عن تكويناتك المادية – ماذا تملك من الماديات وأهمها المال الوفير والعقارات أو المناصب – لتجعلك قريباً منها، فهي لا تعترف بهذا النوع من العلاقات، ولا ترغب في تكوينها لأنها مصلحة مؤقتة، تستغلّها متى تشاء وتقترب منها متى تشاء، فهي تريد منك أن تعترف بها كشيء وجوديّ، وليس كشيء مؤقت، ولأنها علاقة تعاقدية مبنيّة على المجاملات المفرطة جداً، لنثبت للآخرين قوة الرمزية التي تميزك عن الآخرين، فتنسى العلاقات التراحمية. الطبيعة التي لا تزيحك من المكان الذي اخترته لتجلس عليه، ليجلس عليه إنسان آخر أحيط بهالة القوة الرمزية المؤقتة.

أخيراً، وبعد أن قضيت رحلة عميقة مع الطبيعة، لتعود إلى عالمك الواقعيّ بكل تفاصيله ولحظاته الحياتية، عليك أن تتذكر بأنك إنسان ضعيف، تهزّه رجفة حمي، حينها تتمنى أن تمنحها كل ما يمثّلك من قوة رمزية مؤقتة، لتعود إلى حالك الطبيعي المعافى من المرض والتناقضات الذاتية.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights