خلفان بن ناصر الرواحي
لقد كانت تجربتي الأولى لركوب المركب الشراعي بالنمط القديم ماتعة للغاية! وكانت تلك التجربة صباح يوم الخميس ١٦ من يونيو ٢٠٢٢م، في رحلة بحرية لإحدى الجزر الصغيرة من جزر زنجبار التي يطلق عليها ” سفاري بلو”، وهي جزيرة غير مأهولة بالسكان، ولكن تم استغلالها للسياحة، وأقيمت بها العديد من المحلات البسيطة المصنوعة من مواد الخشب وسعف النارجيل، وأقيمت بها بعض المطاعم والاكشاك البسيطة كذلك لخدمة السائحين، ويوجد بها مسجد صغير للرجال والنساء أيضًا. كما يوجد في الجزيرة شجرة كبيرة جدًا ومشهورة عندهم تسمى بشجرة “مبويو”، تأكل ثمارها وتباع في الأسواق عندهم وتحلّى ويضاف إليها بعض النكهات.
فالبرغم أن الرحلة في عباب البحر إلى هذه الجزيرة لا تستغرق سوى خمسين دقيقة فقط بهذا المركب الشراعي الخشبي والمصنع محليًا، وهو من الأنواع التي يتم استخدامها بكثرة لديهم للصيد ونقل السائحين، فإنني استحضرت رحلة الأجداد في تلك اللحظات، رغم الفارق الكبير بين تلك السفن المستخدمة في تلك الحقبة وهذا المركب الشراعي الصغير، إلا أنها تشترك جميعها في النوعية والمواد المستخدمة في صناعتها سواء في الهيكل أو الأشرعة، وقد زودت هذه الأنواع التي كانت تجربتي فيها بمحرك حديث للاستخدام وقت الضرورة وببعض ستر النجاة أيضًا.
لقد شردت بعيدًا في بعض لحظات تلك الرحلة وتذكرت الأجداد السابقين، وكيف كانوا يعانون ويصارعون الصعاب وهم يشقون عباب البحار من سلطنة عمان إلى زنجبار والمناطق الأخرى التي أجبرتهم الظروف عليها بالرحيل من الوطن. إن الغالبية ممن رحلوا في تلك الحقبة لم يركبوا البحر من قبل، وكانت حرفهم السائدة الزراعة والنجارة وغيرها من الحرف الأخرى التي يعمل بها غالبية أهل سلطنة عُمان الداخل، فخبرة أهل المناطق الساحلية من سلطنة عُمان هي التي ساعدتهم، ومدت يد العون لنقلهم وتحمل الصعاب وقبول التحديات، وزادهم إصرارًا من وجهة نظري هو قوة علمهم وإدراكهم بخبرة العمانيين وتاريخهم العريق في الملاحة البحرية منذ آلاف السنين، وعلى رأسهم الملاح الشهير أحمد بن ماجد.
إن تلك التجربة التي عشتها هي لحظة استشعار ومراجعة لبعض ملامح تلك الحقبة التي لم أكن جزءا منها، ولكني استذكرت بعض الحكايات التي كان يقصها والدي -رحمه الله- وبعض العمانيين الذين عاشوا نفس التجربة، وكيف قطعوا تلك المسافات، وتوقفوا في العديد من المحطات، وكيف كان يتصرف الملاحون عند اشتداد العواصف وهطول الأمطار أو حدوث الأعاصير، وكم من الذين كانوا ضمن الأموات أو المفقودين ولم يعرف عنهم شيء! وذلك كله من أجل البحث عما يسد كرامتهم للعيش والخدمة لأسرهم ومن يعولون. هكذا عشت التجربة، واستمتعت بلحظاتها مع استذكار مخيلتي وحضورها ببعض المشاهد التي قد خاضها الأجداد في العقبة الماضية، وصبرهم على متاعب الحياة.
وفي ختام مقالنا هذا أردت أن أعيش لحظات التجربة مع قصة كفاح الأجداد، وكيف كان صبرهم على نوائب الدهر، فقد خاضوا التجارب ونجحوا في إيصال الرسالة لنا بقصة كفاحهم وتحملهم الشدائد مهما كانت الظروف، وضحوا بأنفسهم والرحيل عن أهلهم ووطنهم من أجل راحة أبنائهم، ولم تتوفر لديهم وسائل التواصل الحديثة كحالنا اليوم، فصبروا على فراق أهلهم وذويهم، وحافظوا على هويتهم وصالوا وجالوا بقاع الأرض، وكانت لهم بصمات واضحة في نشر الدين الإسلامي، ونقل الثقافة العمانية والسجايا المعروفة عن بلادهم، وأسهموا في صناعة الإرث التاريخي الخالد.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبل أجدادنا وآباءنا وإخواننا وكل من خاض تلك الرحلات بنية خالصة من أهل سلطنة عُمان أو من بقية بلاد المسلمين، سواء من أجل رفعة راية الإسلام وتبليغ الدعوة، أو ممن جاهد في سبيل دنيا يصيبها لراحة أهله، وحافظ على هويته الوطنية، ولكل من ضحى في سبيل الكرامة الوطنية والإنسانية، ونسأله تعالى أن تشملهم الرحمة والمغفرة، إنه سميعٌ مجيب.