2024
Adsense
أخبار محليةمقالات صحفية

رحلتي إلى زنجبار

(٥) زخرفنا مساجدنا ونسينا إخوتنا!

خلفان بن ناصر الرواحي

 

إنّ من رأى ليس كمن سمع! وما حالنا اليوم الذي لم يكن كحال عهد النبوة وبداية تبليغ الرسالة السماوية! فلننظر كيف كان حال المساجد في العهد النبوي وحالها في عهدنا الحالي؟ سنجد أن المسجد كان على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مبنيًا باللبن، وسقفه الجريد، وعمده خشب النخل، وكان الاهتمام الأكبر بنشر الدعوة الإسلامية في ربوع العالم؛ ثم تطور الأمر بعدها فكان القصد بإيجاد المساجد التي تحمي الناس من المطر وإيجاد دار العبادة دون أن تكون هناك المبالغة في الزخرفة والتفخيم، ولكن انحراف الناس عن جادة الشريعة، بدأت مظاهر الاهتمام بهذه المسألة على نحوٍ يُخرج المسجد من الإطار العبادي إلى الإطار العمراني، والمباهاة في عدد المآذن والزخارف والتصاميم العمرانية، وفقدنا دور المسجد ونسينا إخواننا المسلمين ممن ليس لهم حيلة ولا مال يبنون به ما يجمعهم في تأدية العبادة ولو من أبسط المواد، وأهملنا الدعوة السوية لدين الله الحق ونسينا دور المسجد، وانتهزها أعداء الإسلام فرصة سانحة لنشر سمومهم الخبيثة لإبعاد إخوتنا عن جادة الصواب، والبعد عن فهم الإسلام وخاصة في المناطق التي يسودها الفقر، ولم تجد المساندة من الدول الإسلامية الغنية، فأضحوا لقمة سائغة للانحراف والبعد عن الدين الإسلامي الحنيف.

فدولة تنزانيا على وجه العموم هي نموذج حي لحال المسلمين اليوم. نعم، هذا هو الواقع المر، فإن أردت معرفة الواقع الذي تعيشه الأمة الإسلامية في هذا البلد، وتسأل عن أي المشاريع الخيريّة هي الأكثر إقبالاً من قِبَل المتبرّعين؟ فاسأل المؤسّسات الخيريّة سيجيبونك وبدون تردّد: بناء المساجد ومدارس القرآن الكريم! ولا حاجة لنا للوقوف كثيرًا حتى نكتشف سرّ هذا الإقبال، والذي وردت فيه النصوص الشرعية بفضله والثواب عليه، ومنها قوله –صلى الله عليه وسلم-: (من بنى مسجدًا يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله في الجنة) متفق عليه.

ولسنا في معرض هذا المقال للحديث عن بناء المساجد وفضلها والحثّ عليها، ولكن القصد هو توجيه النظر إلى إشكاليّة شرعيّة واقعة ومعايشة في عصرنا الحالي، تتعلّق بسوء تنفيذ تلك المساجد وخروجها عن الضوابط الشرعيّة المتعلّقة بها في عموم الدول الإسلامية الغنية، وبلا شك فبناء المساجد بابٌ من أبواب الحسنات الجارية، لكن زخرفتها بالزخارف المتنوّعة هو ما جاء التحذير منه واعتباره شرطًا من أشراط الساعة، فقد تنبّأ نبي الأمة –صلى الله عليه وسلم- بحصوله وحدوثه وتوسّع الناس فيه، فلقد جاء التحذير في السنّة النبوية الشريفة مبكّراً من هذه المظاهر السلبيّة، والأحاديث في ذلك عديدة ومشهورة، ومنها حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد) رواه أحمد وأبو داود، وفي لفظٍ آخر: (من أشراط الساعة: أن يتباهى الناس في المساجد) رواه النسائي وابن خزيمة.

فلو تأمّلنا في حالنا اليوم لوجدنا أن زخرفة المساجد هي مسألة بحاجة للمراجعة وذلك لدخول هذه الممارسات تحت دائرة الإسراف والتبذير الذي قد جاء النهي عنه شرعًا، ومعلومٌ أن الإسراف هو مجاوزةٌ للحدود الشرعية وإهدارٌ وتضييع للمال يسأل عنه الإنسان، وقد جاء النهي عنه في قوله تعالى: {…وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}- (الأعراف: من الآية31)، وقوله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً(26) إِنَّ الْمُبَذرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً(27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَآءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً(28) وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً(29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيراً(30)} ( الإسراء: 26-30). وهي كذلك نوع من أنواع الإلهاء عن ذكر الله تعالى والخشوع، وإهمال لدور المساجد ومكانتها، وتدلّ كذلك على نظرة الناس على الاهتمام بالأمور الملهيةِ عن الخشوع والشاغلة عن إحضار القلب في أثناء ممارسة العبادة، وأصبح بعضها كأنه معلم سياحي يدخله الجميع.

ونذكر هنا مما جاء في الصحيح من حديث عائشة – رضي الله عنها- عندما صلّى النبي -صلى الله عليه وسلم- بكساء مخطّط، فأبدله بكساءٍ آخر قائلاً لها: ( إنها ألهتني آنفًا عن صلاتي) وفي لفظٍ آخر: (كنت أنظر إلى علمها، وأنا في الصلاة فأخاف أن تفتنني)، فإذا كان هذا حال الكساء للصلاة، فكيف إذا كانت البيئة المحيطة بالمصلّي مرصّعة بأنواع الزخارف والفسيفساء؟!.

لقد تحوّلت نيّة بناء المساجد في دولنا الإسلامية قاطبة وخاصة المساجد الكبيرة والمزخرفة منها إلى المماراة والتباهي، وامتلأت مساجد المسلمين بالكتابات والخطوط المتنوّعة التي تبطّن المحاريب والأسقف، وغيرها من الأمور التي لا يتسع المجال لذكرها، ويعلم بها الجميع! فلو قارنا تلك المبالغات بحال المساجد في بعض الدول الفقيرة، وما شاهدته بعيني في زنجبار على سبيل المثال لا الحصر؛ ستجد أن أغلب المساجد التي بنيت على الطرقات المعبدة متواضعة، ولكنها متقاربة جدًا، بينما تجد المساجد الأخرى التي تكون بعيدة عن الطرقات المعبدة إمّا أن تكون من غير سقف أو بلا سجادة يصلون عليها وبعضها أرضيتها التراب، ولا تتوفر بها وسيلة من وسائل راحة المصلين، وأغلبها ليس بها دورات للمياه، كما أن هناك بعض التجمعات السكانية لا تجد المال والقدرة على بناء مسجد! في المقابل هناك تفاخر وإهدار للأموال في بناء المساجد وتقاربها في بعض الأحيان رغم قلة المصلين في معظم الدول الإسلامية الغنية.

فمن هذا المنطلق وبعد هذه النظرة المتأنّية التي استخلصتها من واقع الحال من هذه الزيارة على وجه العموم، وبيان جذور المشكلة ومظاهرها؛ لا بد علينا من بيان وجهة نظرنا في أن بناء المساجد بلا شك هو خير وفيه ثواب عظيم، ولا ينبغي التهوين والاستنكار منه، لكن علينا أن ننبه ونذكر بأن علينا ترسيخ فكرة التوازن وتحقيق الاعتدال المطلوب بحيث لا نتجاوز حدود المعقول، حتى في الدول الفقيرة عندما نريد أن نتبرع يجب مراعاة الحاجة وتجاوز البناء المتقارب بين المساجد والبحث عن الأماكن الأكثر حاجة، مع لفت النظر إلى صرف المبالغ التي تُهدر في هذه المساجد إلى ما هو أجدى وأنفع دون تجاهل أحوال المسلمين في كل بقاع الأرض، لتصرف في بناء المساجد ذات الحاجة الماسة لها دون مبالغة في الكلفة والزخارف، وفي مدارس القرآن، وشراء المصاحف، والاهتمام بأمور المسلمين المتعلقة بالدين، والدعوة الإسلامية لغير المسلمين، وفي كفالة يتيم، وإغاثة ملهوف، ومساندة ضعيف، وتأليف القلوب، وغيرها من مواطن الخير والنفع؛ فهل تجد هذه الكلمات المتواضعة آذانًا مصغية؟! ذلك ما نسعى إليه ونرجوه ونأمله.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights