لحظات هاربة
بلقيس آلبوسعيدية
نهربُ من لحظاتِ الفراغ، وكأنّنا في سباقٍ دائمٍ مع الزّمن، وكانت اللّحظة الّتي تنبضُ في حضنِ الفراغ هي لحظةٌ ميّتة من حساب لحظات عمرنا الزّهيد.
دائمًا ما نربطُ الفراغ بالفشل، اليأس، الحزن، والإحباط، وكأنّ الفراغ هو مقبرة الأحلام الّتي لم ترَ نور الواقع بعد، نفعل المستحيل لنخرج من دائرةِ الفراغ، ونخلق لأنفسنا أسباباً تجعلنا نستمرُّ في الرّكض في ممرّاتِ السّنين. تستفِزُّنا لحظات الهدوء من بعد العاصفة، وتُثير دهشتنا سكينة الصّمت الّتي ننعمُ بها ونحن نلتحفُ السّكون، يُفزعنا أن نكون واقفين، بينما والجميع من حولنا يسيرُ إلى الأمام، يستمرّ في الرّكض وراء تحقيق أحلامه وغاياته، مُتناسين بأنّ لكلّ منّا ظروفه وقدراته وطاقاته المحدودة، وعزيمته الّتي يستمدُّ منها تلك القوّة الشّغُوفة الّتي تجعلهُ يستمرُّ في الرّكض وراء اكتشافِ ذاته وإثبات وجوده في الحياة، يُفزعنا الوقوف وسط سَيلِ العابرين، وكأنما لا لذّة في بلوغ النّهايات دون عناءٍ وسباق.
نُؤجّل لحظات سعادتنا الكبرى، ولا نحتفِي بإنجازاتنا حتّى والبسيطةِ منها؛ خوفاً من أن يهرب الوقت أو أن يضيعُ منّا.
نكرهُ لحظات الفراغ، ونعشق أن نكون في ركضٍ مستمرّ وراء الزّمن، نخاف أن تمضي اللحظة دون أن نحصد منها شيئاً، أن تموت ساعات أيّامنا دون أن تغيّر ساكناً منّا، ووحّده ذاك الخوف يمتصُّ طاقتنا وقدرتنا ويجعلنا نمُوج في محيط من الضّياع كما يمُوجُ البحر بمياهه، تستهلكنا الطّرقات، وتزداد مرّّات تعثّّرنا، ويتكرّر سقوطنا الموجع، ونبقَى عالقين في أنصاف الطّرقات، نبكِ وجهةً لم تكتمل، ونُحصِي خطواتنا الضّائعة في ظلمات الأنفاق، نبقَى مُنكسرين دون حيلةٍ ولا قوّةٍ لنا، لا نحن نسيرُ إلى الأمام، ولا نحن نستطيع الرجوع إلى حيثُ البدايات، نستمرُّ في الركض بخطواتٍ منهكةٍ، لنكتشف بأنّنا نحتاج إلى ذاك الفراغ الذي كلّما طرق باب لحظاتنا؛ فزعنا وهربنا منه، ففي الفراغ يمكن أن نعيد اكتشاف أنفسنا من جديد، أن نعيد ترتيب خطواتنا وضبط بُوصلة وجهاتنا، وحده الفراغ يمنحنا الفرصة للتّعافي من عناء الرّكض وراء تحقيق ذواتنا، يعطينا الفراغ الفرصة للانغماس في ذواتنا ولإعادة النّظر في أفعالنا ولاكتشاف دهشةٍ جديدةٍ في الأشياء النّابضة من حولنا، يمنحنا مساحةً للتّعافي، وللنّّمُوّ والازدهار فكريّاً، نفسيّاً، وجسديّاً، تمنحنا لحظات الفراغ إحساساً منعشاً يهمس لنا بأنّه يمكن لنا البدء من جديد، رغم فرَصنا الضّائعة، وتجاربنا الفاشلة وخسائرنا التي تراكمت على ظهورنا وتركت فينا شعوراً بالدّونيّةِ وعدم القدرة على التّحقيقِ والإنجاز.
في كنفِ الفراغ تستطيع أن تتنفّس بحريّة طير دون أن تخاف من أن يلمح عناءك أحد، أو من أن يلمس تعب روحك الممزوج بأنفاسك بشر، وحدك فقط من يراك عارياً بلا أغطية، بلا أقنعة، بلا ملامح كاذبة مصطنعة.
في تلك المساحة الساكنة الساكتة تستطيع أن تكون على حقيقتك، وأن تسمع ضجيج نفسك المتضارب موجاً هائجاً لا يسكن ولا يهدأ، قد يخيفك وضعك الساكن وهدوئك الطّاغي على ملامح وجهك، قد يفزعك صمت الأشياء وتحوّل ضجيج الأفكار إلى نهرٍ راكد، قد يربكك، كونك أصبحت كصخرةٍ صمّاء خرساء لا تنطق شفاهك شيئاً سوى تنهيداتٍ دافئةٍ مرسَلة من أعماقك، ولكن وحدها تلك التّنهيدات الصامتة تغسل داخلك؛ لتطهر أعماقك من كل آهٍ أسررتها في فم السكوت حين ولدت فيك عند لحظة كانت عاصفة قاسية.
فليسقط وليذهب بعض من عمرك في سبيل إحياء ما تبقّى منك، فأنت تستحق أن توقف عقارب الزمن لأجلك، لتستريح مع نفسك، لتمارس الصّمت، وتنعم بالسكّينة، وتستلذّ بنشوة الانتصار على كل لحظةٍ تنسلخ من حساب عمرك الزّهيد.
توقف عن الهروب حين تجد الفراغ يطرق أبواب لحظاتك، عِش كل لحظةٍ وحيدةٍ هاربة من ضجيج أيامك، اسمح لعقلك بأن يستريح ويترك قلق المسافات ومرور الزمن، لا تخف الهدوء من بعد العاصفة، ولا ترتبك أمام مهابة الصمت والسكون، وتأكد بأن لا أحداً يمكن له أن يعيش لحظات خُلقت تفاصيلها لأجلك وحدك فقط، فلكلّ منّا دربه الخاصّ مهما بدت لك الوجهات والغايات متشابهة.
لا بأس ببعض الفراغ في سبيل إيجاد صورتك الكاملة الواضحة التي تشعرك بالارتياح عن نفسك، تشعرك بالرضا والقبول، رغم كل الظروف التي واجهتها بروحٍ صابرة صامدة، تذكّر بأن الفراغ لا يأتي عبثاً، بل يأتي ليمنحك دعوةً للنهوض والبدء من جديد، فلا تهمل لحظات فراغك، ولا تستمرّ في الركض في ممرات السنين دون أن تمنح نفسك استراحةً قصيرة.
اخلع عن قلبك قلق الوقت وخوف المسافات واسترح قليلاً لتعيد اكتشاف ذاتك من جديد، ففي الصفحات البيضاء الفارغة استطاع الرسّام أن يبدع ويرسم أجمل لوحة فنية، وبين السطور الفارغة الساكنة استطاع الشاعر أن يكتب قصائده ويبوح بمشاعره.
اسمح لذاتك أن تكتشف نفسها من جديد، وامنح نفسك بدايات جديدة، اكسر حاجز الخوف واخلع عن عقلك القلق وعن قلبك ربكة الخوف من ضياع وقتك، استرح مع نفسك واترك قلبك يشعر بطعم السكينة والسلام، عِش اللحظات الفارغة بكل ما فيها من سكون وهدوء، توقّف عن الهروب منها، فتلك مساحتك الخاصة التي يمكن أن تجد نفسك فيها، وأن تلتقط أنفاسك وترتّب بعثرة مشاعرك معها، يمكن للفراغ أن يرشدك إلى ذاتك الضائعة، أن يخبرك من أنت؟ وماذا تريد؟ وما الذي يمكن لك أن تفعله لتصل بك إلى حيث يشاء قلبك؟ إلى حيث تشاء أنت.