مفهوم العبادة… واستعمار الأرض
خلفان بن ناصر الرواحي
لقد خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان لعبادته واستعمار الأرض، ومهّد لهُ السبل الكفيلة والممكنة التي تعينه على تحمل تلك الأمانة التي عرضت على السموات والأرض والجبال فأبت أن يحملنها؛ وذلك لعظم المهمة، يقول الله سبحانه وتعالى: {…هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا…}-[ من الآية 61 سورة هود]. “قال الشيخ الشعراوي: {وَاسْتَعْمَرَكُمْ}، وساعة ترى الألف والسين والتاء فاعلم أنها للطلب، وهكذا يكون معنى كلمة «استعمر» هو طلب التعمير. {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} أي: طلب منكم عمارتها، وهذا يتطلب أمرين اثنين: أن يبقي الناس الأمر الصالح على صلاحه، أو يزيدوه صلاحاً. [تفسير الشعراوي – الخواطر ج 11 ص 6529]”.
إن واقع الأمة اليوم يختلف عن المنهج الرباني الذي أمرنا به سبحانه وتعالى، وخاصة بين المسلمين في مختلف دول العالم الإسلامي، وقد يرجع ذلك إمّا إلى الجهل، وإمّا إلى التجاهل والانخراط في سفاسف النظريات السياسية التي تعيشها الأمة العربية والإسلامية تحت وطأة ما يسمى بالتحضر والانفتاح، وليتنا قمنا بدور مهم يجنبنا الوقوع في البعد عن المقاصد التي يمكن لها أن تكون واقعًا ملموسًا لمفهوم العمارة فيما يخدم الوطن، والشعور بالمواطنة، والهوية، والسلام، والسلامة من الزَّلاتِ، وكل ما يدعو إلى الفساد في الدين والأرض ماديًا ومعنويًا.
إنّ مقتضيات الإيمان الحق هو عمارة الأرض وعدم الإفساد فيها ماديًا ومعنويًا، ولنا في قصص الأنبياء والرسل عليهم السلام، والخلفاء الراشدين، ومن جاء بعدهم من الصالحين دروسًا وعبرًا نستلهم منها النماذج لتقودنا إلى تصحيح المفاهيم المغلوطة، وتعيننا على المراجعة لخدمة الصالح العام للوطن والأمة. فلو أخذنا نموذجًا من سيرة الأنبياء عليهم السلام فيما يتعلق بهذا الجانب المهم؛ لوجدنا في سورة يوسف أحسن القصص!
نعم، إن نبينا يوسف عليه السلام ضرب لنا أروع الأمثلة لمفهوم الإيمان وعمارة الأرض، والاهتمام بالصالح العام، فبعد أن خاض العديد من التجارب والمحن التي حصلت له، مكنّه الله سبحانه وتعالى جزاءً على صبره على تلك الشدائد التي تعرّض لها، ولم تكن أغلبها إلا من إخوته، ولكنه صبر على ذلك الامتحان الرباني؛ وبسط الله له التمكين على تحمل المسؤولية والأمانة، فاختاره ملك مصر بعد أن عرف سجاياه، وطلبه عنده لاستخلاصه، قال الله تعالى: ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِين (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيم (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِين(56)﴾ [الآيات من سورة: يوسف].
فمن هذه القصة العظيمة نستلهم عدة قيم التي يجب أن تكون حاضرة في واقع مفهوم الإيمان والعمارة لدى المسلمين خاصة، فمن تلك القيم المستفادة من هذه القصة: الثقة بالله، وتحمل الأمانة، والعلم والثقافة والمعرفة، وحسن التصرف والتدبير، واحترام وتقدير مبادرة الكفء لخدمة الصالح العام، والعفو والاحسان لمن أساء، وحسن عمارة الأرض دون تقديم مصلحة شخصية ولا تجاهل لمصلحة الوطن والأمة.
وكذلك فيما يتعلق بخطته المحكمة عليه السلام للتخلص من سنوات الجفاف، وتطبيقه الفعلي لتلك الخطة من خلال العمل الدؤوب، والتوسط والاعتدال في استغلال الثروات لتجاوز الأزمات. قال الله تعالى على لسان يوسف عليه السلام عندما فسرّ الرؤيا التي رآها ملك مصر: ﴿ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)﴾.[الآيات من سورة يوسف].
فلهذا علينا أن نصحح تلك المفاهيم ونستفيد من تلك القيم النبيلة التي نستخلصها من سيرة الأنبياء والرسل، والخلفاء الراشدين، ومن جاء بعدهم من أهل الصلاح الذين حملوا الأمانة لقيادة الأمة، وبأن تسّخر الإمكانات والممكنات في حسن عمارة الأرض، وحسن التدبير والتوسط والاعتدال في استغلال الموارد، واستشعار عظمة الأمانة العامة لما يخدم المصلحة الوطنية العليا.
وخلاصة القول؛ أنّ الإنسان خلقه الله تعالى واستخلفه في الأرض ليقوم بإعمارها على الوجه الأكمل السوي السليم، على أساس الإصلاح والعدل والإحسان مع الخالق من خلال توحيده وحسن عبوديته، ومع الخلق عامة من خلال احترامهم والشعور بهم ومساعدتهم، وتحمل المسؤولية والأمانة، وأنّ علينا أن نعلم يقينًا أنّ الإيمان الحقيقي هو اعتقاد قلبي، وقول لساني، وعمل تطبيقي، ومن بينه عمارة الأرض، أي إصلاحها ماديًا ومعنويًا، وذلك طبقًا لمبدأ الاستخلاف الذي يعتبر الإنسان هو خليفة الله في أرضه، ودوره حسن تعميرها واستصلاحها لما يحقق المصلحة العامة.