احذروا الخصومة
خلفان بن ناصر الرواحي
تُعدُّ الخصومة من أسباب تعطل المصالح، وتفشي ظاهرة التنافر بين أفراد المجتمع، وتصل بعض الأحيان إلى القطيعة بين الأرحام؛ فتعكّر صفو الحياة العامة والخاصة، وربما تصل إلى تعطيل المصالح العامة، فتستهلك جانبًا كبيرًا من اهتمام البشر، وتستنزف الكثير من المال والجهد، لتصل في أكثر الأحيان إلى السعي لتسجيل الانتصار الممقوت بدواعي الفكر والتعصب وتغليب المصلحة الشخصية، وفي أحيان أخرى تؤدي إلى إشراك شخصيات ليس لها صلة بتلك الخصومات، فتجد نفسها قد وقعت في وحل تلك الخصومة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وتصبح جزءًا من تلك الخصومة دون إدراك للعواقب التي قد تترتب عليها، وتارة يكون سبب الخصومة مجرد الوهم بأن الطرف الآخر قد اعتدى، أو أنه ربما يقوم باعتداء في المستقبل، مما يدخل تحت عنوان سوء الظن بالآخرين؛ فتقع الخصومة.
إنّ المتتبع لواقع الحال المعايش في عصرنا الحالي بوجه العموم، يجد أن الخصومات قد وصلت لمنعطف خطير، وخاصة فيما يتعلق بالأحوال العامة، وشغلت الحيز الأكبر من قضايا المحاكم والجهات المعنية، ويبذل من أجلها الجهد من أصحابها لتغليب الانتصار بدواعي التعصب وإثبات الذات بعيدًا عن احترام الحقوق، وتقدير مواقف الناصحين ووسطاء الصلح لردء الخصومة، فكان الأجدر أن يهتم الأفراد ببناء الثقة والاهتمام بتوجيه تلك الجهود للبناء والتنمية والرقي بالمجتمع نحو الخير والصلاح، وتغليب المصلحة العامة فوق كل اعتبار؛ فكلما تخلصت المجتمعات من لدد الخصومات، ومعضلة النزاعات والخلافات، استطاعت أن تهتم وتصب جل اهتمامها من أجل تحقيق المصلحة العامة والأهداف النبيلة السامية بين أفراد المجتمع.
ومن الأمثلة لتلك الخصومات، ما يقع بين الأزواج؛ مما يؤدي إلى ضياع الأسرة وتشتت الأبناء، وتفكك الروابط الأسرية والاجتماعية، وتمدد الخصومة لأزمنة طويلة قد تؤدي إلى القطيعة والتشرذم الأسري والمجتمعي، وكل ذلك بسبب قلة الوعي وعدم إدراك المسؤوليات والواجبات والحقوق المتبادلة لبناء الأسرة وعلاقتها بكيان المجتمع، وقد تدخل في بعض المسائل الجوانب المتعلقة بالاعتداء على الحقوق بين قرابة أحد الزوجين أو كليهما؛ فيكون وهم حب الانتقام والاعتداء هو الفيصل، وسببًا لتفكك الرباط الأسري؛ فتكون الخصومة معنوية ومادية.
ومن الأمثلة الأخرى أيضًا، هي تلك المتعلقة بالتعدي على الحقوق الخاصة أو العامة، الناشئة بدواعي المقارنة، أو ردود الفعل نتيجة تصرف شخصي أو جماعة معينة، ويكون سببها الاعتداء على الحقوق، أو نتيجة وهم الاعتداء؛ فيحرك عندهم دافع ردّ الاعتداء؛ فتصبح أرضية الخصومة واقعة لا محالة، وتُعدُّ هذه الخصومات ذات طابع المصلحة على أرض أو مال أو ما شابه ذلك من المصالح المادية.
إن ديننا الإسلامي الحنيف جاء ليؤكد أهمية احترام حقوق الآخرين، سواء كانت المادية والمعنوية، ويحّرم بشدة أي اعتداء أو جور على غيرنا، وإذا ما حصلت إساءة أو اعتداء بين أبناء المجتمع، فإنه يرشدنا نحو اتباع منهجية العفو والتسامح لما فيه من أجر عظيم. يقول الله سبحانه في كتابه العزيز: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ (الشورى: من الآية40)، ويقول سبحانه أيضًا: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (آل عمران: من الآية134).
كما نهى الإسلام عن الفجور في الخصومة، ويعد الفجور في الخصومة من أبشع الصور التي تلطخ الإنسانية، وسببًا من أسباب تفكك روابط المجتمع، وتعد هذه الخصلة من خصال النفاق، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:( أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ )- أخرجه البخاري ومسلم.
فلهذا، يتضح جليًا الحقيقة الراسخة التي تبنى عليها قاعدة الخلاص من هذه المعضلة من خلال الكتاب والسنة النبوية الشريفة؛ فإننا نجد أنه لا يوجد ما يبرر تفشي الخصومة في المجتمع بين الأفراد أو الجماعات على الإطلاق، وأن الخيار المناسب للجميع من أجل إقناع غيرنا بما يعتقد به هو، ويراه صحيحاً من جانبه، هو الحوار والمجادلة بالحسنى، أما العداوة والمخاصمة والمجادلة بما لا فائدة فيه فمن شأنها أن تحول كل طرف في الخصومة إلى عدو لدود، ولا يسلم من ذلك أيضًا وسيط الصلح والخير المتدخل بين الخصوم، ولكن عندما تنعكس تلك المعادلة فبلا شك تنعكس النتيجة، وذلك مصداقًا لقوله تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ (فصلت: من الآية34).