آفة التنمّر
عصام بن راشد المغيزوي
حينما أشرق نور الإسلام على العالم، أنارَ قلوب البشرية بضياءٍ من الأخلاق الكريمة، والتي جاءت عاكسة لتوجّهات الرسالة السماوية، فأبتْ تربته أن تحتضن الرذائل ونأى نهره عن سُقيا الخبائث، فأزهرت القلوب طيباً، وغنّت الألسن فضائلاً.
إن قيَم التسامح والتساوي التي يستمدها المجتمع العماني من تعاليم دينه، وتقاليد ساكنيه، ودستور قيادته وأَدَتْ مساوئ الأخلاق في مهدها، ورعت مكارم الأخلاق. إلا أن نظام العولمة تمكن من إلغاء الحدود الزمانية والمكانية، الأمر الذي ساهم في تبادل الثقافات والأفكار بين الأمم.
إن نهر العولمة أغدق الأمم بمكارم ومفاسد الأخلاق على حدّ سواء، فظهرت العديد من الظواهر السلبية التي لم يكن المجتمع راغباً في يوم من الأيام في اكتسابها ومنها ظاهرة التنمّر.
يمكن أن يُعرّف التنمر على أنه:
إساءة من فرد أو جماعة إلى فرد أو جماعة أخرى، وقد تكون هذه الإساءة لفظية أو جسدية، وغالباً ما تكون آثار هذه الظاهرة مدمرة سواء على مستوى الأفراد أو المجتمع؛ حيث تترك آثاراً يصعب تجاوزها في فترة قصيرة.
وفي ظلّ غياب التوصيف الدقيق لمعضلة التنمر، وعدم وجود رادع حقيقي لهذه المشكلة، فإن هذه المشكلة ستأخذ في الانتشار بين أطياف المجتمع، وستعمل على تفكيك الروابط التي تجمع بين أفراده، وتساهم في زعزعة قيم الأمان التي يعيش تحتها أفراد المجتمع.
لقد ساهمت العديد من العوامل في انتشار هذه الظاهرة المدمرة بشكل سريع مقارنةً مع غيرها من الظواهر ومنها:
كثرة مرتادي مواقع التواصل الاجتماعي، والإعلانات، والابتعاد عن قيم الدين الإسلامي الحنيف بصورة كبيرة في نشر هذه الثقافة الدخيلة بين فئتي الأطفال والشباب، حيث تكمن الأسباب الحقيقية وراء تأثّر هاتين الفئتين أكثر من غيرهما إلى: غياب الوعي الكافي بمخاطر هذه الظاهرة، وكثرة ارتيادهما لمواقع التواصل الاجتماعي.
يتخذ التنمر شكلان مختلفان وهما: التنمر المباشر، والتنمر غير المباشر. يعرف التنمر المباشر بأنه:
توجيه إهانة مباشرة للشخص الآخر مثل: السبّ أو الضرب. أما التنمر غير المباشر فيكون بمحاولة التأثير على الطرف الآخر بشكل غير مباشر، مثل: محاولة نشر الإشاعات أو الأكاذيب. إن تأثير هذه الظاهرة الدخيلة يتعدّى مستوى الأفراد ويصل إلى المجتمعات.
في مقالي هذا سأحاول جذب انتباه المختصين النفسيين والاجتماعيين إلى هذه الظاهرة الخطيرة، وسأسعى لوضع بعض الحلول الممكنة التي بإمكانها تقليل الآثار السلبية لهذه الظاهرة الدخيلة.
تمثّل البيئة المدرسية أحد أكثر البيئات خصوبةً لظاهرة التنمر والتمرد الأخلاقيّ، حيث أن عدم الرقابة الكافية من الوالدين على الأبناء قد يؤدي إلى اكتساب الأبناء صفة التنمر، حيث تؤكد الدراسة الأخيرة الصادرة من منظمة اليونيسف أن واحداً من كل ثلاثة طلاب في الفئة العمرية 13-15 سنة يتعرضون للتنمر في البيئة المدرسية.
إن تعرّض الطفل للتنمر في سنٍّ مبكرة أمر خطير قد يزعزع ثقته بنفسه، ويجعله يلجأ للانطواء، وهو أمرٌ سيؤثر حتماً في تحصيله الدراسي. إن الافتقار لإيجاد تصنيف مناسب لهذه المشكلة أمرٌ قد يعقّد من مأمورية التعاطي مع هذه المشكلة من قِبل الكادر التعليمي، ويساهم بشكلٍ مباشر في اتساع رقعة المتضررين من هذه الظاهرة السلبية، فالضبابية المحيطة بهذه الظاهرة تساهم في دخولها وانتشارها بين فئتي الأطفال والشباب لجهلهم بالمخاطر الجسيمة المترتبة على وجودها، وبالتالي فإن هذه الظاهرة الدخيلة هي نتيجة طبيعية لكثرة مرتادي مواقع التواصل الاجتماعي، والألعاب الإلكترونية، والمنصّات التفاعلية بين فئتي الأطفال والشباب. كما لا يمكننا إهمال حقيقة أن التباين في مستوى الدخل يُعدّ من العوامل الرئيسية التي ساهمت في انتشار هذه الظاهرة، ففي ظلّ الترويج لثقافة التباهي عن طريق بعض مرتادي برامج وسائل التواصل الاجتماعي، أصبحت صورة الافتخار بالملابس وغيرها من الماديات أمراً شائعاً، ومع وجود فجوة واضحة في المستوى المادي بين مختلف أبناء المجتمع، وترسخت بعض القيم المعنوية التي يحاول المجتمع أن يحذّر أبناءه من آثارها السلبية كالغرور، وحب الذات، والسيطرة في طرح الأفكار والآراء مع تجاهل مشاعر الآخرين.
إن ما يثير القلق في تسرب هذه العادة الدخيلة إلى سلطنتنا الحبيبة، هو كثرة تفاعل أبناء المجتمع مع بعضهم البعض، الأمر الذي يشكل بيئة خصبة لهذه الظاهرة، فالحديث عن البيئة المدرسية فقط نجد أن اختلاف المستويات المدرسية بين الطلاب إضافة إلى اختلاف حالاتهم الاجتماعية والمواقف اليومية التي تحيط بهم، عوامل تساهم بشكل كبير في زيادة حالات التنمر.
ففي مجتمع يمتاز بازدياد عدد الأطفال والشباب مقارنة مع باقي الفئات العمرية فإن تصاعد حالات التنمر يبقى واردًا، إذ تشير الإحصائيات الرسمية الصادرة في عام 2018 إلى أن نسبة الأطفال والشباب الذين يبلغون 29 سنة أو أقل بلغت (64.3%) من إجمالي عدد السكان، فيما شكلت نسبة الشباب الذين تندرج أعمارهم من 18 إلى 29 سنة حوالي 22% من إجمالي عدد السكان، أي ما يقارب 567262 شاباً وشابة.
إضافة إلى ذلك يقع حوالي 42% من السكان العمانيين تحت 17 سنة(1) الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى اتساع رقعة هذه العادة الدخيلة في المجتمع العماني.
كما تلعب الضبابية المحيطة بتصنيف وتوصيف هذه المشكلة دوراً محورياً في زيادة احتمالية تأثير هذه الظاهرة على تلاحم وحدة المجتمع العماني حاضراً ومستقبلاً.
إن عدم التعامل بحزم تام مع ظاهرة التنمر أمر قد يؤدي إلى زرع الخلافات، وقطع صلات الرحم، وحدوث النزاعات بين أفراد المجتمع، الأمر الذي سيضعف وحدة المجتمع وتلاحمه، وقد تجرّه لزيادة جرائم الكراهية والانتقام، وتشويه السمعة، وغيرها من الجرائم التي تكون ناتجة عن خسارة لقوته التي استمدها سابقاً من تكاتف ووحدة أبنائه.
إن غياب التشريعات والقوانين التي تحدّ من اتساع رقعة الفئة المتأثرة بهذه الظاهرة ستقرع ناقوس الخطر لدى مختلف الجهات التشريعية وستدفعها لسنّ قوانين لاحتواء ووضع تشخيص مناسب لهذه الظاهرة.
لا يختلف اثنان على أن الجهود الحكومية ترمي إلى إحداث ثورة في الموارد البشرية، بل أن رؤية عمان 2040 تهدف في المقام الأول لتنمية الموارد البشرية، ومع اتساع رقعة هذه الظاهرة وتأخر رصدها إحصائياً، قد تصبح تلك الجهود هباءً منثوراً.
ما زال مصطلح التنمر بعيداً عن التصنيف في سلّم الجرائم في المركز الوطني للإحصاء والمعلومات، بل إن غياب ذِكر وتناول القضية من قِبل الإعلام المحلي أدى إلى زيادة اتساع رقعة الظاهرة في المجتمع العماني. في عام 2015 قامت مؤسسة (تيمز) بإجراء دراسة على طلاب الصفوف الرابع والثامن في مدارس السلطنة إذ شملت الدراسة 8498 طالباً وطالبة من الصف الرابع، و8225 طالباً وطالبة من الصف الثامن؛ إذ خلصت الدراسة إلى وجود حالات تنمر طلابيّ انعكست بصورة مباشرة على مستوى الطلاب التحصيلي (2).
وتمثلت مظاهر التنمر في عدة صور كالتنابز بالألقاب، وإثارة التهم، والسيطرة على بعض الأنشطة من قبل بعض الطلاب، ونشر معلومات محرجة على مواقع التواصل الاجتماعي بقصد الإهانة.
على الرغم من محدودية تأثير هذه الممارسات إلا أنها تعطي مؤشرات لما قد يحدث مستقبلاً من جرائم الكراهية.
إن واقع عدم التعاطي مع هذه العادة ساهم بشكل كبير في اكتساب الطلاب لهذه العادة في سن مبكرة فأصبحت عادة دائمة، ولغة متقنة، وأقوال وأفعال يتفاخر بها الطالب دون أن يدرك المخاطرة النفسية والاجتماعية المترتبة عليها.
من هنا تأتي أهمية إضفاء صبغة تشريعية وتعريفية ووصفية على هذه الظاهرة. كما يجب إعادة قراءة واقع هذه الظاهرة وتحديد الأسباب التي قد تتسبب في ظهورها في مجتمعنا العماني، والخطوات التي قد تؤدي إلى تقليل مخاطرها لضمان استمرارية وحدة المجتمع العماني، كما يجب على الحكومة أن تعمل وفق أطر واضحة لتقييم وتشخيص وتصنيف هذه الظاهرة في سلّم الجرائم لردع من تسوّل له نفسه أن يتنمر على الآخرين.
وللحد من انتشار هذه الظاهرة في البيئة المدرسية، ينبغي على الحكومة تأهيل الكادر التعليمي للتعاطي بشكل مناسب مع هذه الظاهرة ولتقوم بإدارة السلوك الطلابي بالشكل المناسب. كما يقع على عاتق أهل الاختصاص القيام بدراسة السلوكيات والمعالم المرتبطة بهذه الظاهرة بشكل دوري لتحديث معطياتها ودراسة تأثيرها على المجتمع العماني.
كما يجب تفعيل دور الجامعات، والمراكز النفسية، وأماكن العمل في التعامل مع هذه الظاهرة وذلك بإعطائها الصبغة التشخيصية، والقيام بالدراسات التتبعية لرصد مستوى تطور وانتشار هذه الظاهرة، كما يجب فرض رقابة صارمة على مواقع التواصل الاجتماعي وذلك بوضع قوانين وتشريعات وعقوبات على من يقوم بالتنمر على غيره؛ لضمان عدم وجود عادات قد تضعف المجتمع العماني مستقبلاً، فعلى الحكومة أن تقوم بعمل مسودة لدراسة السلوك المجتمعي لدراسة الظواهر الدخيلة على المجتمع العماني، وذلك عن طريق دراسة سرعة انتشارها وتأثيرها.
لقد نشأ المجتمع العماني على هوية تقوم على وحدة صفّه وترابط أبنائه، وتمتعهم بأخلاق رفيعة يشهد عليها القاصي والداني، وللمحافظة على مكتسبات الهوية العمانية كان لزاماً على الحكومة أن تتعامل بجدية تامة مع العادات الدخيلة التي يمكن أن تشوه هذه الصورة الأصيلة.
_________________
(1) المركز الوطني للإحصاء
(2) المرجع نفسه