صلاح الرفقة وبناء الأوطان
خلفان بن ناصر الرواحي
إنَّ بناء الأوطان يعتمد على صلاح الشخصية وبنائها من أبنائها، وزرع القيم والمبادئ التي تعزز من قوة الدافعية لديهم للنهوض بالوطن وبذل قصارى الجهد والتضحية، ولا تقوم الأوطان إلا بصلاح أبنائها ووفائهم من أجل المحافظة عليه بما أنجز على أرضه، وما سوف ينجز مستقبلا. ويأتي دور الأسرة في المقام الأول لغرس مرتكزات التربية وقيم التنشئة، وغرس مبدأ انتقاء الصحبة التي تعين على صلاح الأجيال حاضرًا ومستقبلا؛ وذلك لما لها من دور مهم وقوي في حب الوطن، وتحمل الأمانة والنهوض به.
فكما نعلم أنَّ الإنسان جُبِل على حبِّ مُخالطة الآخرين والتعايش مع المحيط ليتفاعل مع مقتضيات الحياة الاجتماعية، ويسعى جاهدًا أن يتخذَ له جليسًا يعينه على مصالحه في دنياه وأخراه، ومما لا ريب فيه أنّ الناس متفاوتون في دينهم وأخلاقهم، فمنهم الخيِّر الفاضل الذي ينتفع بصُحبته وصداقته، ومنهم السيئ الذي يتضرَّر بصداقته ومعاشرته. فكلٌّ له تأثيره في بناء شخصية الفرد سلوكًا وتفاعلًا مع الآخرين، فكلما كانت الصحبة نقية وصالحة كانت السلامة في القول والعمل حاضرة بمعانيها السامية التي تعزز من قيمة الفرد والمجتمع على حد سواء.
فمصاحبة الصالحين هي خيرٌ وبركة في الدُّنيا والآخرة، ومودة وتعاضد لما هو مفيد للمصلحة المشتركة، يقول الله سبحانه وتعالى في محكم التنزيل: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف: 67]. أما مصاحبة جُلَساء السوء فهي ضياعٌ وخسران للفرد والمجتمع، وتكون النتيجة حينها انتشار المفاسد التي تفتك بكيان المجتمع، وتؤخر من تقدمه، وهي أيضًا وبالٌ وحسْرةٌ وندامة يوم القيامة، قال تعالى:﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا 27 يَا وَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا 28 لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي ۗ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا 29 ﴾ [الفرقان: 27 – 29].
قال الإمام الشافعي – رحمه الله:
إِذَا لَمْ أَجِدْ خِلاًّ تَقِيًّا فَوَحْدَتِي
أَلَذُّ وَأَشْهَى مِنْ غَوِيٍّ أُعَاشِرُهْ
وَأَجْلِسُ وَحْدِي لِلْعِبَادَةِ آمِنًا
أَقَرُّ لِعَيْنِي مِنْ جَلِيسٍ أُحَاذِرُهْ
وقال عدي بن زيد:
إِذَا مَا صَحِبْتَ الْقَوْمَ فَاصْحَبْ خِيارَهُمْ
وَلا تَصْحَبِ الْأَرْدى فَتَرْدَى مَعَ الرَّدِي
عنِ المرْءِ لا تَسْألْ وَسَلْ عَنْ قَرينِهِ
فَكُلُّ قَرينٍ بِالْمُقارنِ يَقْتَدِي
وقال سعيد بن أبي أيوب: لا تصاحب صاحب السوء، فإنه قطعة من النار، لا يستقيم وُدُّه، ولا يفي بعهده.
فلنحرص على انتقاء الصحبة الصالحة، فقد ورد عن الإمام علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- ورضي عنه وأرضاه أنه كان يقول:” عليكم بالإخوان؛ فإنهم عدة الدنيا وعدة الآخرة”، ويقول سيدنا عُمر بن الخطاب رضي الله عنه: “لولا ثلاثٌ ما أحببتُ العيش في هذه الحياة الدنيا: ظمأ الهواجر، ومكابدة الساعات من الليل، ومجالسة أقوام ينتقون أطايبَ الكلام، كما يُنتقَى أطايب الثمر”، والإنسان مجبول على التأثُّر بصاحبه وجليسه، والأرواح جنودٌ مجندة؛ فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (الأرْواحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَما تَعارَفَ مِنْها ائْتَلَفَ، وما تَناكَرَ مِنْها اخْتَلَفَ).
وكما ينبغي أن نبني الأوطان بسلاح الصحبة الصالحة، والبعد عن مخالطة رفقاء السوء؛ لأنها السبيل لانتشار الفضائل، وتحمل الأمانة، وحب الأوطان والرقي به، ولنحرص أيضًا على تقارب القلوب وتآلُفُها قبل الأجساد، فإذا تلاقت محبة القلوب مع تآلف الأجساد لما هو خير وصلاح في الدنيا، ائتلفتْ واختلفتْ بحسب ما خُلقت عليه، فيميل الأخيار إلى الأخيار، والأشرار إلى الأشرار. فلننتقِ الصحبة الصالحة التي تعيننا على قوام الأمور وصلاحها؛ فإنها من صلاح الأوطان وبنائها وتقدمها.