سلسلة مقالات في المواطنة السياسية (2) المواطنة السياسية في المناهج العُمانية: بين مطرقة الطموح وسندان المعايير
د. سلطان بن خميس الخروصي
دكتوراه في علوم التربية
كاتب ومدوِّن، باحث اجتماعي وتربوي
sultankamis@gmail.com
استكمالا لمقالنا السابق الذي حاولنا من خلاله تأطير المسار الفلسفي والتاريخي لقيم المواطنة السياسية عبر الحقب الإنسانية المتواترة، نستطرد القول في أن غرسها وتعزيزها لدى النشء يُعدُّ مسؤولية وطنية تتطلب تضافر الجهود الرسمية والأهلية، وتوفير البيئة الحاضنة لاكتسابها واستيعابها وفهم مفرداتها وآليات ممارستها في الحياة اليومية للمواطنين، ويمثل الحقل التربوي أحد أبرز المسارات العملياتية لتحقيق هذه الغاية الرفيعة عبر مختلف مكونات البُنية التعليمية من إدارات المدارس والمعلمين، والمناهج الدراسية، والأنشطة المدرسية وغيرها. وتعدُّ مناهج العلوم الإنسانية الحاضن الأكبر لتلك القيم؛ حيث يعوَّلُ عليها القيام بدورٍ مهم وفاعل لتدعيمها نظرا لخصوصيتها وطبيعة موضوعاتها.
ولو أسقطنا ما تقدم على واقعنا العماني التربوي، نجد أنه وعلى الرغم ما أولته وزارة التربية والتعليم من اهتمام نحو غرس تلك القيم لدى النشء بتطعيم المناهج الدراسية عموما ومناهج الدراسات الاجتماعية على وجه الخصوص بموضوعات مستقلة تتصل بقيم المواطنة السياسية، وتشكيل لجنة متخصصة لدراسة واقع المناهج وموضوعاتها ودورها في تعزيز تلك القيم بعد أحداث العام (2010) والمطالبة بتحسين الواقع التربوي في السلطنة، فإن مؤشرات خطيرة ظهرت على الساحة الوطنية تجسَّدت في تجدد تلك الأحداث في العام (2011)، وتجددت معها المطالبات بتغيير المناهج الدراسية، وتضمين موضوعات ذات صلة بالقضايا الإنسانية والإسلامية والعالمية بمصداقية، والمطالبة بالتعددية السياسية، ومكافحة الفساد، وتخفيف القيود الرقابية المفروضة على الصحافة والرأي.
لقد أوحت الممارسات والسلوكيات التي صاحبت تلك الأحداث بوجود خللٍ في تلك المناهج والتساؤل عن المعايير التي بُني عليها الفلسفة الأدبية والأهداف الاستراتيجية ووضوح السياسة التربوية النافذة أو ضبابيتها؛ كونها لم تتمكن من إشباع حاجة الأجيال العُمانية في فهم الحقوق، وكيفية المطالبة بها، وما يترتب عليهم من واجبات تجاه الدولة والمجتمع؛ وهذا ما يدعو إلى مراجعة هذه المناهج وتحليلها من أجل تقويمها، حتى يُتَمكَّن من معرفة أسباب الخلل القائم؛ سعياً وراء الوصول إلى بناء مناهج متكاملة تحقق آمال الأجيال، وتسدُّ حاجة المجتمع لمواطنين مُلتزمين وواعين بواجباتهم وحقوقهم في المجتمع الحديث، ومما يُعزِّزُ هذا الطرح (إعادة النظر إلى مراجعة قيم المواطنة السياسية في المناهج) ما نوَّهت إليه جُملة من الدراسات التربوية بأن شعور الطلبة نحو محتواها، وطرق تدريس المعلمين لها كان سلبيَّاً؛ لإحساسهم بجمودها، وعدم ارتباطها بالواقع الذي يعيشون فيه، وضعف مصداقية موضوعاتها، وعدم تمكّن معلميهم من التطرق إلى الموضوعات السياسية، والاجتماعية الجدلية أو تخوّفهم في التطرق إلى ذلك كدراسات (Selaibeekh, 2017؛ Khaled, 2013؛ Ciftcl, 2013؛Russell& Waters, 2010)، أضف إلى ذلك فإن تقصِّي الباحث للمنظومة البحثية التربوية في السلطنة حول هذا الموضوع أظهرت ندرة في البحث والنوعي لها، فلم يجد إلا دراستين أجريتا قبل عقدين ونيف من الزمن إحداهما للدكتور سيف المعمري في العام (2002)؛ والأخرى للباحث عامر العيسري في (2001) واللتان بحثتا في مستوى توافر تلك القيم في مناهج التربية الوطنية (التي أُلغيت بعد ذلك)، وقد كشفتا عن مستوى توافر ضعيف وغير متوازن للقيم السياسية في محتوى تلك المناهج.
وعلى ضوء ما تقدم؛ فإننا بحاجة ماسة لاستقراء واقع درجة تضمين القيم السياسية في مناهجنا الوطنية الحالية، ودورها في تعزيز مفهوم المسؤولية الوطنية، وخلق مسارات الوعي السياسي الآمن في ظل التقلبات المحيطة بهم، وإدراك ماهية الحقوق والواجبات وهما طرفا معادلة الأمن والأمان بين الناس والدولة في كل حقب التاريخ الإنساني؛ حيث سنعمل في مقالنا القادم استقراء نتائج دراسة دكتوراه حديثة وتحليلها صدرت عن الجامعة العالمية الإسلامية بماليزيا في هذا العام (2022) وقد حصلت على أفضل بحث صريح وجريء على مستوى الكلية، سنتحقق من خلالها عن مدى توافر القيم السياسية في مناهج الدراسات الاجتماعية (كنموذج)، وهي أقرب المناهج الدراسية للقيم السياسية عن نظيرتها من المناهج الإنسانية، ومن خلالها يمكننا إسقاطها على تفسير السلوكيات التي حصلت في الفترة المنصرمة وتجددها بين الفينة والأخرى؛ لنقف على المربع السليم عن درجة الوعي السياسي للشباب العُماني، وطرح التحديات التربوية والحلول والمقترحات التي يمكن أن يستفيد منها صُنَّاع القرار في بناء المناهج الوطنية الآمنة في ظل الحِراك الراديكالي العالمي المتلاحق.