2024
Adsense
مقالات صحفية

أيوب المعجزة

غزلان البلوشية

عندَ فقدان شخص عزيز على القلب، ولا تجد من يعوضك مکانه، فإنك تبحث جاهداً لأن يعوضك حرمانك منه أن تهب اسمهُ أحد أبنائك، ليبقى ذِكره حیّاً خالداً في القلوب.

هكذا كان أيوب الصغير عندما منحَته والدتهُ هذا الاسم بعد فقدانها أخاها منذ مدة، وهبت له المعزّة ليكون الابن و الأخ معاً، ترعاه رعاية الابن الغالي على قلبها الذي خرج من أحشائها من بعد معاناة المخاض بعد انتظار طويل فتھبهُ الاسم الذي سيلازمُهُ مدى الحياة.

قد تتعجب أيُھا القارئ لماذا أذكر كل هذا، وما علاقتي بقصة أيوب؟ حسناً، علاقتي بأيوب هي علاقة حياة، عندما أتعامل مع مرضى وتحدث بعض المواقف معهم تجعلهم يشاركونني بقصصهم لأكون جزءًا منها، وتبقى في الذاكرة مدى الحياة.

لن أطيل عليكُم في حديثي، سأبدأ بسرد قصتي مع أيوب وأمه التي منحتني ثقتها، الأسرة التي كانت مكوّنة من أيوب، ووالديه القادمَين من أجل موعد لأيوب ليتم تطهيره (ختانه) حسب السنّة المتبعة في الإسلام، ولكن لم يكن من المتوقع أن تحدث له مضاعفات بعد العملية، وقد تحدُث مع بعض الحالات وهذا الشيء شائع، إذ يُحَلّ الموضوع بخبرة الطبيب الجراج، ويتم إخراج الطفل من المستشفى، ولكن مع أيوب اختلف الموقف؛ حيث قام الطبيب بحلّ مشكلته وتم إخراجه ليذهب إلى البيت، فحدث ما لم يکُن بالحسبان؛ إذ تفاجأت أمه عندما نظرت إليه بأنه لا يتحرك، وقد ازرقّت شفتاه، فقانت بإعادته هي وأبوه إلى المستشفى، ولكن إلى قسم الطوارئ، وتم إدخاله إلى غرفة الإنعاش، لقد كنت مشغولة جداً مع المرضى، وكان أيوب في حالة يُرثى لها، لا يتحرك ومزرقّ الوجه، وسرعان ما بدأت بعملي كممرضة تعلم ماذا ستفعل لإنقاذ الطفل ليعيش مجدداً متناسيةً التعب والإرهاق مع طول فترة وجودي في غرفة الإنعاش، وبوجود طبيب الطوارئ بدأنا بالإنعاش القلبي الرئوي بالفعل، لننقذه ونُعيد العلامات الحيوية.

 وأدركنا أنه سيكون بخير عندما وجدنا نبضاً وهو علامة جيدة له، وأيضاً تأثّر بؤبؤ العين من الضوء، وهذا أيضاً مؤشر جيد له.

في أثناء قيامنا بعملنا لأيوب لإبقاء حالته في وضع الاستقرار، ومع وجود مجموعة من أخصائيين من الطاقم الطبي والصحي، دخلَتْ علينا أم أيوب لتصرخ وتهددنا بشكل هستيري، ولا أستطيع أن ألومها في هذا الوضع الصعب، فهي لم تكن موجودة لتری ما قدمناه لأيوب ليكون على قيد الحياة، فقد رأتنا ونحن حوله لتفقد صوابها خوفاً عليه، وفي وضعها وكما سردتُ سابقاً أسباب تسميتها لابنها بـ أيوب؛ مما جعلها تظن أنها سوف تفقده كما فقدت شقيقها.

 كانت كالمجنونة وقتها؛ مما دفع والده لإخراجها من غرفة الإنعاش، لتخرج تماماً من قسم الطوارئ، وهي لا تعلم مصير ابنها، هل سينجو أو لا؟

بعد أن اطمأننتُ على وضع أيوب الصغير، قلت في داخلي:

عليّ أن أطمئن أم أيوب، فهي لها الحق أن تطمئن على وضعه أيضاً؛ لترتاح وتكون بالقرب منه، خرجتُ من القسم باحثةً عنها لأجدها، وهي في حالة يرثى لها، لا تستمع لأحد، وتبكي منهارة من الحسرة والألم، كان وضعي معها صعب؛ إذ لا أعلم ھل ستتقبل ما سأقوله لها أو لا، وما ردة فعلها؟ شعرت أنَنّي أغامر، ولكني لم أهتم بردّۃ فعلها، المهم أني أقوم بواجبي لأشعرها بالراحة النفسية، ولتكون بالقرب من ابنها ليطمئن قلبها.

هنا استجمعت قوتي الداخلية لأتحدث معها ملامسةً مشاعر الأم المفجوعة بحال ولدها، فقد تحدث ردة فعل غير متوقعة منها، ولكني جمعت كل ما لدي من قوة وأساليب المرأة صاحبة تجارب سابقة بالتعامل مع مثل هذه المواقف لأتحدث معها، وهي غير مصغية لي، جعلتها تنظُر لوجھي لتعلم أن أيوب بخير، ولكنه بحاجة لوجودها بجانبه قلباً وقالباً، وأن تدعو له بالشفاء العاجل، لم أكن أعلم فيما إذا سيكون فعلاً بخير أم لا، وما أدراني؟! فقد تحدث أمور معاكسة، كتدهور الحالة الصحية للطفل لاحقاً، ولكن شعوري الداخلي كان متفائلاً بأنه سيكون بأحسن حال.

وبالفعل في الیوم الثاني، قمت بزيارة أيوب لأراہ في أحضان أمه، وقد تم إزالة أنبوب التنفس الاصطناعي في وحدة العناية المركزة، وعند إلقاء التحية وجدتها تتذكرني، لتخبرني بأنها تتذكر أدق التفاصيل.

لا أعلم لماذا يشعر الممرّض بشعور غريب كأنها الحاسة السادسة، لأقول لها بأني سآتي في اليوم التالي، وهو بأحضانها ترضعه حليب صدرها، ليكون مثل ما قلته لها.

كانت نظرتها لي نظرة امتنان، ونظرتي لاحتضان الأم لطفها نظرۃ أمل متجدد بالحياة وراحة نفسية رائعة، لتشعر براحة داخلية؛ لأنّ لك قوة لا تظهر إلا في المواقف الحرجة، التي تتطلب دافعاً ومواجهة وشعوراً لا تتوقعه بعد ذلك.

قصة أيوب حركت مشاعري تجاهه كمشاعر الأم لطفلها التي لم تنجبه، عُمر أيوب الآن تقريباً 3 سنوات، صاحب الابتسامة اللطيفة، والطفولة البريئة.

العجيب في الأمر هو تواصل أم أيوب معي لتخبرني أنه بخير، وأنها في اشتياق لرؤيتي، ولا أخفي عنكم حتى أنا في اشتياق إلى أسرة أيوب مجدداً كاشتياقي إلى نظرة التفاؤل والأمل.

هنا ألخّص مهنة التمريض بأنها ليست فقط عمل بل هي تبادل مشاعر بين مرضى وذويهم من بعد عمل يُعدّ في نظرهم نبيلاً رائعاً، وقد يصفها بعضهم بالإنسانية، من يعمل ويتقن عمله سيشعر بالذي أشعر به الآن.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights