2024
Adsense
أخبار محليةمقالات صحفية

التزلف المبطن

عبد الله بن حمدان الفارسي

حدثني أحدهم من مبدأ الصداقة، بعد أن رأيت علامات التجهم على وجهه، وسمعت على لسانه أيضًا تأتأة الكلام؛ حيث كان واضحًا أنه قبل لقائي به بقليل خارج من معترك لفظي مع شخص ما؛ ونتيجة لذلك الاستنتاج الذي لا يتطلب ذكاءً أو جهدًا خارقًا، سألته عن سبب التوتر الذي هو عليه، وليس بالضغط الطويل والمتكرر مني لمعرفة أسباب حالته، استرسل فورًا في سرد روايته لي، وكأن لسان حاله يقول: أحسنت صنعًا بسؤالك لي؛ لأني بحاجة ماسة للفضفضة من أجل قتل ذلك الشعور الغاضب بداخلي، حينها وبإيحاءة خفيفة برأسي تعني تفضل، فكلّي آذان صاغية، تفوه قائلًا: جمعتني به الصدف في لقاء عابر بمعية أحد الزملاء الذين تربطني بهم علاقة عمل ليست بالقصيرة، وشاءت الأقدار أن يتطور ذلك اللقاء إلى معرفة سطحية، لا تتعدى تبادل التحايا وابتسامات التجمل عند الالتقاء، وربما حديث مختصر يفرضه واقع الحال، ومع مرور الوقت تعمقت العلاقة بيننا إلى شبه صداقة، تكون أقرب منها إلى الزمالة القديمة، وفي يوم ما تفاجأت بدعوته لانضمامي إلى مجموعة في الواتساب، هو من قام بإنشائها قبل معرفته بي، وكان أغلب المشاركين فيها تربطني بهم معرفة قديمة، وعلاقة وثيقة متفاوتة المستوى، الأمر الذي أدخل شعور الاطمئنان إلى قلبي من ناحية تلك الدعوة، وليس سرًا أو عيبًا إن قلت: بأن أسلوبه الآسر، وطريقة تعامله وإدارته للمجموعة فيها نوع من الاحترافية الممنهجة، التي لا تدع لك مجالًا للشك فيما تلمسه منه، وبالرغم من الحذر والتحذر من جانبي في توطيد العلاقات سريعًا، خاصة بعد المرور بتجارب ذات وقع سلبي، ما زالت عالقة على غلاف ذهني، فإن ما جعلني أجتهد في توسعة رقعة ارتباطي به، وتكثيف محاولات التواصل معه يقيني التام بأن ما قام به ليس بالشيء الهين، وهو في كيفية قدرته وتمكنه من جمع هذا الكم من الأشخاص ذوي التوجهات والميول المختلفة، والتباين الفكري، والحياتي في بعض الأشياء، منها الاجتماعية، والعلمية، والمهنية وأخرى، مع الاتفاق على حسن الخلق، ونقاء السيرة الذاتية لكل منهم حسب قناعتي الشخصية المتواضعة، وإقناعهم بالوجود تحت مظلة واحدة؛ مما يدل ويشير إلى إيحاءات عدة تجتمع في هذا الشخص، منها قوة الشخصية، والمكانة العلمية، والمهنية، ودماثة الخلق، والحضور الذهني المتوقد، وأيضًا اللباقة المتفردة في التحدث والتخاطب مع الآخرين، وتمكنه من فرض أسلوبه المنمق في أثناء الحوار، ورحابة صدره وسعته الذي كان مأوى ومتسعًا لكل الحوارات والمناقشات المتبادلة بين الأعضاء، واحتواء الخلافات كافة إن وجدت، وإطفاء كل ما من شأنه زيادة لهيب الخلاف بين الأعضاء، وإضفاء روح الود بين أعضاء المجموعة، وبهذه الصفات التي ذكرت، وربما هذا غيض من فيض، فما الذي بعد كل ما شعرت به تجاهه لا يجعلني أو لا يدفعني في التمادي لتوثيق وتعميق صداقتي به؟ مما مهّد لتلك العلاقة كافة السبل والمعايير للرقي بها لمستوى التشاور المتبادل في بعض المواضيع ذات الأهمية، بعيدًا عن نطاق المجموعة بالتواصل المباشر، سوى فيما يتعلق بالمجموعة وما يدور فيها أو محاور أخرى ذات اهتمام خاص مشترك. ولكن وفي لكن يكمن مربط الفرس، وبجانبه نقطة ضبابية تستوقفني بين حين وآخر وتثير اهتمامي، وتقلق حفيظتي، وهو أن بعض الأعضاء ليست لهم مشاركات أو إسهامات في المجموعة نهائيا؛ مما يعني أسماء دون تفاعل ولا فاعلية، وبعضها الآخر إسهاماته خجولة جدًا أقرب منها للعدم، علمًا بمعرفتي المتفاوتة بهم إلا أن يقيني لا يرقى لمستوى الشك في إمكانياتهم الثقافية، وإن تقاربت أو تباعدت في بعض الأشياء، ومع هذا الصراع الداخلي الذي يعصر عقلي، أتراجع عن التوجس الذي يعتريني بأنه ليس له ضرورة أو أهمية؛ لأن أغلب المجموعات على هكذا النمط، والقليل منهم من تجده متفاعلًا، وفاعلًا، وناشطًا في طرحه الإيجابي ومشاركاته، ولكن ما يجعل لذة الاستمرار ومتعة التواصل مع هذه المجموعة هو هذا الشخص محور الحديث، ومع مرور الأيام، وتسارع الوقت، وتغيرات الأحداث، ومعطيات الحياة المتذبذبة بين الارتفاع والانخفاض؛ أجدني أتلقى اتصالًا منه، ملخصه رغبته في الاجتماع بي؛ لأمر أوصله إلى عقلي وقلبي، بأنه ذو نفع كبير لكلينا، وفي المكان والزمان المتفق عليهما تم اللقاء التاريخي، وتسميه بذلك ليس استخفافًا أو من باب الاستهتار، هو فعلًا كذلك لترسخه وتدوينه بعناية في إحدى صفحات حياتي الخالية حتى من السطور، لتكون لذلك اللقاء أو الحدث خصوصية الانفراد، وطبعًا من جانبي كان مستوى الإصغاء لدي يفوق العناية الفائقة، لم أحاول أن أستوقفه أو أستفسر منه عن شيء، وتركت له حرية الحديث وأريحيته، وبعد حديث ذي مقدمات معسولة، وكلمات أشبه بالسلسبيل في سلاستها ولذتها، وهنا الحديث لصديقي مستكملًا ما بدأه؛ أبدى لي استعداده التام بصدد إقامة مشروع حيوي، سيعود نفعه بالمقام الأول على مؤسسيه، ومن ثم على البلاد، وتحسين أوضاع عدد لا بأس به من أبناء الولاية واقتصادها بشكل عام، وسيشكل نقلة نوعية وكمية في مجاله، وفي القريب سيحصل على الموافقات النهائية لانطلاقة المشروع من الجهات المختصة، وحتى يتم ذلك بصورة عاجلة يحتاج لشريك موثوق به يساهم معه بمبلغ معين، وفورًا قالها لي: لن أجد أفضل منك ليكون شريكًا ورفيقًا لرحلة نجاح لا حدود لها، ولما رأى علامات البهجة الخجولة على محياي، لم يتردد بطلب المبلغ الذي يريد، مع إخراج مستند مصرفي من محفظة مركبته مدونًا فيه المبلغ وتوثيقه بتوقيع منه، دون أن يمنحني فرصة القبول أو الرفض، بأسلوب سحري من وجهة نظري لا يخلو من الشعوذة المغلفة بالتقوى والورع، والأمر المؤسف والمؤلم في الوقت ذاته استغل ثقتي به عندما سلمني المستند قبل تسلمه المبلغ مني، مع إصراره بإبقاء المستند معي؛ نظرًا لثقته العمياء بأمانتي ونزاهتي حسب كلامه، ومنذ استلامه المبلغ لم أرَ المشروع، ولا المال الخاص بي، وكلما هددته باللجوء للقضاء لتحرير شكوى عليه يتباكى، ويتوسل لي بمنحه فرصة أخرى لرد المبلغ، لغاية انتهاء الفترة القانونية للمستند، وحتى هذه اللحظة لم أتحصل منه على شيء، ربما بعضهم يتهمني بالسذاجة أو الغفلة غير المبررة أو يسمعني جملة القانون لا يحمي المغفلين، أوافقهم الرأي على إلصاق كل ذلك بي، ولكن أحيانًا طيبتنا المفرطة، وحبنا لفعل الخير، وطبيعتنا السمحة توصلنا إلى ما وصلت له، ومثل هؤلاء لا يخلو أي مجتمع منهم، وفي النهاية ختم حديثه مع اعتصار قلبه من الألم، وتكاد عيناه تنفجران دمعًا بمقولة أبي ذر المأثورة: (خشيت أن يقال: ذهب الخير من الناس).

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights