2024
Adsense
مقالات صحفية

الاختيارُ الصَّحيحُ في الوَقْتِ الخطأ

د. محمد عزيز عبد المقصود
أستاذ لغويات مساعد بكلية اللغة العربية
جامعة السلطان عبد الحليم معظم شاه الإسلامية العالمية ماليزيا
الإيميل /mohamedaziz@unishams.edu.my
mohammadaziz1974@yahoo.com

اختياراتُنا في الحياةِ تختلفُ مِنْ حيثُ المكانُ والزمانُ، وقد يغيبُ عنْ كثيرينَ في اختياراتِهم أنَّ هناكَ عاملًا مُهمًا في نجاحِ الاختيارِ، ألا وهو ” وقتُ الاختيارِ “، فقد تختارُ اختيارًا صحيحًا في أمرٍ ما، وتَسعى جاهدًا إلى تحقيقِ اختيارِك، وتستخدمُ في ذلكَ عدةَ وسائلَ متنوعةً ظنًّا منكَ أنَّ هذا هوَ الاختيارُ الأمثلُ، وتجدُ كثيرينَ حوْلكَ يُؤيّدونَ اختيارَكَ، ويدعمونكَ فيهِ، ويتمنّون لكَ كلَّ التوفيقِ والسدادِ.

وبعدَ مرورِ فترةٍ مِنَ الزّمنِ تُفاجَئ أنَّ اختيارَك لمْ يكنْ في محلِّه، ويبدو ذلكَ مِنْ خلالِ تقييمِكَ لهُ، أوْ مِنْ خلالِ نُصحِ مَنْ حَولَك مِنْ أولي الألباب؛ فيستوقفُك هذا الأمرُ في مراجعةِ اختيارِك، والنظر في أسبابِ عدمِ توفيقِك؛ علَّك تجدُ ما يفسِّرُ لكَ ذلكَ؛ فتعمل على تنميةِ نفسِك، والإفادةِ من ذلكَ في اختياراتِك مستقبلًا.

ولنأتِ إلى بعضِ مظاهرِ ذلكَ في واقعِنا الذي نحياهُ، ويتطلَّبُ منا اختيارًا مناسبًا، سواءٌ أذلكَ داخلَ أسرانا أمْ خارجها.

بادِئَ ذي بَدْءٍ أشيرُ إلى أنَّ حديثَنا هنا عن الاختياراتِ التي نختارُها بأنفسِنا لا ما يختارُه غيرُنا لنا في شؤونِ حياتِنا عامةً؛ أو ما يراهُ غيرُنا صحيحًا بالنسبةِ لنا؛ حيثُ لا يكونُ لنا مطلقُ الاختيارِ في تحديدِ ما نريدُهُ، وإنما نستمعُ إلى نصائحِ الآخرينَ وإرشاداتِهم، وأحيانًا نأخذُ بآرائِهم، ونتبنَّاها ظنًّا منّا أنَّ هذهِ اختياراتٌ صحيحةٌ، وقدْ يبدو ذلكَ فيما يبدو لهمْ أنَّه اختيارٌ صحيحٌ، وقدْ يكونُ، لا فيما يبدو لنا أحيانًا؛ لأنهم نسوا، أو تناسوا أنَّ هناكَ عواملَ كثيرةً قدْ تؤثرُ في نجاحِ الاختيارِ وتحقيقِهِ، ومنها أنَّ مَنْ يختارُ لنا أحيانًا يختارُ ما يَراهُ أنّهُ صحيحٌ مِنْ وجهةِ نظرهِ فقطْ دونَ أنْ يعيَ تمامًا أنَّ هناكَ مختارين لهذا الاختيارِ قدْ لا يَكونونَ مؤهَّلينَ لحملِ هذا الاختيارِ – وهوَ اختيارٌ صَحيحٌ حقًّا – والعمل على نجاحِهِ وتحقيقِهِ؛ لأنَّ قدراتِهم تأبى حملَ هذهِ الأمانةِ، بل أذهبُ أبعدَ مِنْ ذلكَ، فأقول: إنَّ هناكَ كثيرينَ – بسببِ ذلكَ – يَقِفون حجرَ عثرة أمامَ نجاحِ مَنْ يختارون لهم بسببِ عدمِ وعيهِم بتركِ فرصةِ اختيارٍ للآخرينَ، حتى لوْ كانت اختياراتُهم ليستْ صحيحةً؛ فأنْ تَبني جيلًا يعتمدُ على ذاتِه واختياراتِه، فيصيب مرةً، ويخطئ أخرى أولى مِنْ فرضِ اختياراتٍ على غيرِك وإنْ كانتْ صحيحةً إلا أنَّهُ غابتْ عنهُم قراءةُ قدراتِ غيرِهِم، ومناسبة الوقتِ لهذا الاختيارِ.

اختياراتٌ داخلَ الأسرةِ:
قبلَ أنْ نتحدَّثَ عنْ آليةِ الاختياراتِ داخلَ الأسرةِ وصراعاتِها، أشيرُ إلى أمرٍ مُهمٍ يكونُ عاملًا مؤثرًا في تحقيقِ الترابطِ الأسريّ، ألا وهوَ المحافظةُ على ما يُسمّى بذكاءِ المسافاتِ بينَ أفرادِها: بينَ الوالدينِ معَ بعضِهِما، وبينَ الوالدينِ معَ أبنائِهِما، وبينَ الأبناءِ معَ بعضِهِمْ بعضًا؛ حيثُ يُعدُّ ذلكَ مِنْ أهمِّ عواملِ البناءِ الأسريّ الصحيحِ، ولابُدَّ أنْ يراعيَ أفرادُ الأسرةِ قربَ المسافاتِ في تعاملاتِهم، وفي اختياراتِهم؛ لتنشأَ بينَهُمْ علاقاتٌ طيبةٌ.

ويكثُرُ الصّراعُ في الاختياراتِ الأسريّةِ مِنْ قِبَلِ الآباءِ والأمهاتِ للأبناءِ بدْءًا من اختيارِ مجالِ الدراسةِ، فالعملِ، ثُمَّ الزواجِ، وما يخصّ حياتَهُم عامّة؛ لأنَّهم هم الأساسُ الذي تُبنى عليهِ حياتُنا، ونَسْعى جاهدين إلى أنْ نراهُم دائمًا في أحسن حالٍ، وفي أفضل مكانٍ ومكانةٍ.

وهنا لا أتحدثُ عن اختياراتٍ سابقةٍ في صفاتِ الآباءِ والأمهاتِ عندَ الزواجِ قدْ تكونُ عاملًا مُهمًا في بناءِ شخصيّاتِ أبنائِهم؛ لأنَّ الاستقرارَ الأسريَّ أحدُ روافدِ الاختيارِ الصحيحِ لدَى الأبناءِ فيما بعد، فكيفَ لأسرةٍ غيرِ مستقرةٍ أنْ يكونَ لديْها أبناءٌ تَتولدُّ لديهِمْ قدرةٌ في كيفيةِ اختيارٍ صحيحٍ ؟

ومِنَ الْقضايا المهمةِ التي تَشغلُ أبناءَنا كثيرًا قضيةُ التعليمِ خاصّة في مراحلِه الجامعيّةِ، واختيار المجالِ الدراسيّ الذي يتناسبُ معَ قدراتِهم، فقدْ يرسُم الآباءُ والأمهاتُ أمنياتٍ لأبنائهم يتمنَّوْنَ تحقيقَها، ويبذلونَ كلَّ ما في وسْعِهمْ في سبيلِ أنْ يُحقِّقَ الأبناءُ أمنياتِ الآباءِ والأمهاتِ، لا ما يريده أبناؤُهُمْ، وهذهِ إشكاليةٌ يُعاني منها كثيرونَ مِنْ أبنائنا في أُسَرٍ متنوعةٍ، ويظلُّ الصّراعُ قائمًا بينَ اختياراتِ الآباء والأمهاتِ والأبناءِ، ويترتَّبُ عَلى ذلكَ أنْ يكونَ عندَنا مخرجاتٌ تعليميّةٌ غير قادرةٍ على التعامُلِ معَ مُعطياتِ الحياةِ العصريّةِ المتطوّرةِ.

وكذلك الأمرُ يتّضحُ في معايير اختيارِ الحياة الزوجيةِ لأبنائِنا وبناتِنا، وحتّى نكونَ مُنصفينَ حقًّا، فإنَّ هناكَ مَنْ يحتاجُ لمنْ يمدُّ لهُ يدَ العونِ خاصّةً إذا كانَ لا يُدركُ أبعادَ هذا الاختيارِ، وما أَعنيهِ أنْ نتركَ لأبنائِنا وبناتِنا حريةَ القرارِ إنْ كانوا مُدركينَ حقيقةَ هذا جيدًا، وإنْ كانوا غيرَ مُدركينَ فنحنُ نُساعدُهُم في ذلكَ، ونقدمُ لهمْ مقترحاتٍ تَتناسبُ مع إمكاناتِهم؛ حيثُ تُبنى العلاقاتُ الأسريّةُ المستقرّةُ على المشاركةِ والتعاونِ، لا على فرضِ اختياراتٍ، وكمْ من أَسَرٍ تَناءتْ بسببِ تدخّلٍ في اختيارٍ معينٍ مِنْ قِبَلِ الآباءِ والأمهاتِ في هذهِ القضيةِ تحديدًا!

اختياراتٌ خارجَ الأسرةِ:
في تعاملاتِنا الحياتيةِ نمرُّ باختياراتٍ مُتداخلةٍ بعضُها يكونُ صحيحًا، وبعضُها الآخرُ يكونُ غيرَ ذلكَ، والذي يهمُّنا هُنا تلكَ الاختياراتُ التي لمْ نُوفَّقْ فيها، ونحاول تفسيرَ ذلك؛ لاستبعاده مستقبلًا، فهناكَ اختياراتٌ لنا غيرُ صحيحةٍ طُويَتْ صفحاتُها في مجالاتٍ عديدةٍ، وفي علاقاتٍ متنوعةٍ، وكلٌّ منّا بينهُ وبينَ نفسِه، يقولُ: لوْ عادَ بي الزمنُ ما كنتُ فعلتُ هذا أوْ ذاك! ومِنْ ثَمَّ يبدأُ في استخدامِ ما يُسمَّى بــ ” المِصْفاة ” التي تكونُ بمثابةِ تنقيةِ العلاقاتِ والاختياراتِ الماضيةِ ممّا أصابَها، وما أحوجنا إليها الآن!

وفي إطلالةٍ سريعةٍ نَلْحظُ أنَّهُ لا يُمكنُ لأحدٍ منّا أَنْ يحيا حياةً مُستقرةً فعّالةً دونَ أَنْ يكونَ لهُ صاحبٌ أو صديقٌ أو رفيقٌ في دراسةٍ أو عملٍ أو في أمورٍ حياتيةٍ عامّة، وأحيانًا تكونُ هناكَ علاقاتٌ مفروضةٌ علينا، ولا نتحدثُ عَنْ هذا، بل نتحدثُ عَنْ حريةِ اختيارِ الآخرِ بما يتناسبُ معَ بيئاتِنا وقُدْراتِنا، وقدْ أوصىانا النبيُّ – صلَّى الله عليهِ وسلَّمَ – بهذا الأمرِ فيما رواهُ أبو هريرةَ – رضىَ اللهُ عنهُ – في قولِه:” المرءُ عَلى دينِ خَليلِهِ، فلينظُرْ أحدُكُمْ مَنْ يُخالِلُ “. ( ابن حجر العسقلاني، الأمالي المطلقة حديث رقم 71725 ).

وهذهِ الوصيةُ تُعلي قَدْرَ الاختيارِ، وتَبني لنا طريقًا واضحًا في حياتِنا، فالرجلُ يُعرفُ بأخلاقِ صاحبِه؛ لِذا فإنَّ حُسنَ الأخلاقِ طريقُنا نحوَ الارتقاءِ، وكمْ مِنْ أصحابٍ وأصدقاءَ لهمْ تأثير ٌكبيرٌ في بناءِ شخصياتِ أصحابِهم وأصدقائِهم! ولهذا تأتي أهميةُ الاختيارِ في هذا الأمرِ؛ كي نُدركَ أنَّهُ ليسَ سهلًا، ويحتاج منّا جُهدًا مَبذولًا، فمَنْ أُوتيَ صاحبًا صالحًا مُصلِحًا، أوْ صديقًا صَدوقًا وفيًّا فقدْ نالَ خيرًا كثيرًا.

وقدْ تكونُ صحةُ الاختيارِ هُنا في مرحلةٍ معينةٍ غيرَ متناسبةٍ مِنْ حيثُ سياقُ مكانِها وزمانِها، فكلُّ مكانٍ وزمانٍ يَفرضانِ اختياراتٍ معينةً، قدْ ندركُ أبعادَها ؛ فنُحسن الاختيارَ بما يتناسبُ معها، وقدْ لا نعي ذلكَ، ونظنُّ أننا اخترنا اختياراتٍ صحيحةً، لكنّها ليستْ كذلكَ، ولا ينفعُ الندمُ.

ومِنَ الْأمورِ المهمّةِ التي لا نُحسنُ فيها اختيارَ الوقتِ المناسبِ عندَما نَطلبُ شيئًا ما مِنْ غيرِنا في وقتٍ لا يُناسبُه؛ فلا يُستجابُ لنا؛ فينزل بنا ضيقٌ يؤثّرُ في أنفسِنا كثيرًا، خاصّةً ونحنُ نَعتقدُ أنَّ طلبَنا لا غُبارَ عليهِ، لكنَّنا تناسيْنا ما يُسمَّى بذكاءِ التوقيتِ؛ حيثُ إنَّ وقتَ طلبِه لمْ يكنْ كذلكَ؛ فنلوم أنفسَنا في عدمِ اختيارِ الوقتِ الصحيحِ، ونتعلم مِنْ هذا مستقبلًا.

وحقًّا إذا أردنا تَحقيقَ طلبٍ ما فلْنُحْسِنْ اختيارَ وقتِهِ بحكمةٍ، وما أعظمَ هذا الفهمَ والإدراكَ ! والله تعالى يقولُ:” ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ ( سورة البقرة: الآية 269 ).

وفي لحظةٍ تاريخيةٍ يَنبني عليها – ليسَ فقطْ – بناءُ الإنسانِ، ولكن بناء الأوطانِ وتنميتها كذلك، عندما نحسنُ اختيارَ الوقتِ المناسبِ لما نريدُه، ويتناصّ الاختيارُ معَ الوقتِ؛ فتحدث النهضةُ، ومن ثَمَّ الحضارةُ، وما نراهُ في مجتمعاتٍ دوليةٍ خيرُ دليلٍ على ذلكَ، فهناكَ مجتمعاتٌ أدركتْ أهميةَ الوقتِ الصحيحِ في اختياراتِها؛ فنهضتْ في كافةِ مجالاتِها، وحقّقتْ نجاحاتٍ يُحْتَذى بها.

ولكيْ تتحققَ المعادلةُ في إيصالِ الرسالةِ واضحةً، وتتضحَ الفكرةُ جيّدًا؛ حتَّى تَتغيرَ حياتُنا نحوَ الأفضلِ، لابدَّ مِنْ ملاحظةِ الآتي:
اختيار صحيح + سياق زمني مناسب = نتائج إيجابية.
اختيار صحيح + سياق زمني غير مناسب = نتائج سلبية.
دامَتِ اخْتياراتُنا صَحيحةً، وظلّتْ أَوقاتُها مُناسبةً، وبَقيتْ نتائجُها إيجابيّةً، وكانَ النَّجاحُ حَليفَنا.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights