2024
Adsense
مقالات صحفية

الوطن والوطنية

د. عبدالحكيم أبوريدة
تعلمنا مُنذ الصِغر أنَّ الوطن هو البلاد التي إليها نُنسَب، وعليها نُحْسب، ويمتد فيها أصلنا، ويقيم فيها معْشرُنا وأهْلنا، وأنه المكان الذي يقيم فيه الإنسان، ويرتبط به ارتباطًا شديدًا، ولا يكاد يتركه إلا عند الشدائد، والوطنية: مصطلح يعبر عن انتماء الإنسان إلى موطنه الذي يعيش فيه، ويحمل هذا المصطلح معاني كثيرة منها حب الإنسان لوطنه، ومنها استعداده للتضحية من أجله، ومنها الحقوق التي يكتسبها بانتمائه للوطن، والواجبات التي عليه القيام بها تجاه الوطن، وبين الحقوق والواجبات تتشابك العلاقات، وتترابط بين الإنسان ووالديه وأجداده، و بين الإنسان وأبنائه وأحفاده، وبين الإنسان وأقاربه، وبينه وبين أبناء وطنه جميعهم، والوطنية قد يقوى الشعور بها حينًا، وقد يضعف أحيانًا أخرى، والإنسان مركوز في طبعه ارتباطه بوطنه، وحنينه الدائم للمكان الذي درج فيه، وتنفس من هوائه، وأكل من خيراته، وشرب من مائه، ونَعِم بدفء الشمس على أرضه في الشتاء، واستظل بوارف أشجاره من حر الشمس في الصيف، وتمتع بجمال الطبيعة فيه في الخريف وفي الربيع.
وقد قرن الله –تعالى– في كتابه الكريم بين تمسك الإنسان بوطنه وبين تمسكه بنفسه التي بين جنبيه، وجعل مفارقة الأوطان كمفارقة النفوس الأبدان، فقال – تعالى –:{ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ ..}. (سورة النساء. من الآية 66 ).

و قد سجل رسولنا الكريم سيدنا محمد –صلى الله عليه وسلم– سطورًا من نور يهتدي بها كل محب لوطنه، حين قال- فيما رواه عدي ابن الحمراء -: وقد أخرجه قومه من موطنه مكة: ” واللهِ إنَّكِ لخيرُ أرضِ اللهِ، وأحبُّ أرضِ اللهِ إلى اللهِ، ولولا أنَّي أخرجت منك ما خرجت”. رواه أحمد، و ابن ماجه، والترمذي، وصححه.

وعن ابن عباس قال: قال رسول الله– صلى الله عليه و سلم- لمكة : ” ما أطيبَك منْ بلدٍ وأحبَّك إليَّ، ولولا أنَّ قومي أخرجوني منك ما سكنتُ غيرَك”. رواه الترمذي وصححه.

ثم يدعو –صلى الله عليه وسلم– ربَّه –عزَّ وجلَّ– بعد أن استقر به المقام في المدينة المنورة قائلًا:- فيما روته السيدة عائشة -رضي الله عنها- :” اللهمَّ حبِّبْ إلينا المدينةَ كحبنا مكةَ أو أشدّ..”. صحيح البخاري. 5677 – حديث صحيح.
وقَد قال الشاعر ابن الرومي:
وَلـِـي وطـــنٌ آليـْـتُ أَلَّا أَبيـــعَهُ *** وَأَلَّا أَرَى غَيْرِي لَهُ الدَّهْرَ مَالِكا
وَحَبَّبَ أَوْطَانَ الرِّجَالِ إِلَيْهِـمُ *** مَآرِبُ قَضَاهَا الرِّجَالُ هُنَالِكا
إِذَا ذَكَرُوا أَوْطَانَهُمْ ذَكَّرَتْهُمُ *** عُهُـــــودَ الصِّبَـا فِيها فَحَنــُّوا لِـذَلِكا
و لله درُّ أمير الشعراء أحمد شوقي حين يقول:
وَيَا وَطَنِي لَقِيتُـكَ بَعْـَد يَأْسٍ *** كَأَنِّي قَدْ لَقِيتُ بِكَ الشَّبـابا
وَكُلُّ مُسَافِرٍ سَيَـؤُوبُ يَـْومًا *** إِذَا رُزِقَ السَّلامَةَ وَالإِيابا
وَلَوْ أَنِّي دُعِيتُ لَكُنْتَ دِينِــي *** عَلَيْهِ أُقَابِــلُ الْحَتمَ المُجـابا

أُديرُ إليكَ قبلَ الْبَيـْتِ وَجْهي *** إذا فُهْـتُ الشَّهــادةَ والمَتابا
وحب الوطن والارتباط به ليس مقصورًا على الإنسان وحده، بل يتعداه إلى بقية المخلوقات، فقد شاهد العلماء أنواعًا من الكائنات البحرية تقطع آلاف الأميال؛ لتعود إلى موطنها الأول، والارتباط بالوطن غريزة لدى الكثير من المخلوقات، وقد كان العربي قديمًا إذا انتقل من موطنه مسافرًا يصطحب معه بعض تراب وطنه؛ ليستشفي به إذا أصابه المرض.

وها هي إحدى الأعرابيات وقد نقلت من موطنها في البادية زوجًا للخليفة الأموي عبد الملك بن مروان –نقلت إلى قصر الحكم ومع ذلك لم ترض بموطنها بديلًا- فقالت:
ولبْسُ عَباءةٍ وتَقــرَّ عَيْني *** أحبُّ إليَّ مِنْ لبس الشّفوفِ
و أكلُ كُسَيْرة في قعرِ بيتي *** أحــبُّ إلىّ مِنْ أكلِ الرغيـفِ

ففهم الخليفة مرادها، وطلقها؛ لتعود إلى موطنها الذي ارتبطت به ارتباط الروح بالجسد.

وحين يسود العدل على أرض الوطن، ويشعر المواطن بأنه ينال من مكتسبات وطنه، تتجذر بداخله مشاعر الوطنية، وترتوي من روافد خيرات الوطن، وتنمو وتورق وتزهر، وتثمر ثمارًا يانعة، تَسُرُّ الناظرين، وتروي الظمأى، وتشبع الجوعى، وتؤوي المحتاجين، ويستظل بها كل أبناء الوطن.

ويجب أن ينبه المربون والمعلمون الناشئة لأهمية حب الوطن، ولأهمية الشعور بالوطنية، حتى يشب هؤلاء الصغار وهم مرتبطون بوطنهم، والوطنية متأصلة في نفوسهم وعقولهم.

ومن المقومات الداعمة للوطن وللوطنية نعمة الطعام والشراب، ونعمة الأمن والأمان، لذا قال الله –تعالى– { لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4) }- سورة قريش.
وقد أورد القرآن الكريم دعاء سيدنا إبراهيم –عليه الصلاة والسلام– لمكة مرتين بالأمن:
“في قوله تعالى: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا ” (سورة البقرة من الآية 126)، وقوله تعالى: ” ربِّ اجعلْ هذا البلدَ آمنًا ” (سورة إبراهيم من الآية 35).

وتتجلى مظاهر الاهتمام الوطني في مدرسـةٍ تُبْنَى، وجامعــةٍ تُشَيَّدُ، وطريق يُمَهَّــدُ، وسبيــل يُعَبَّدُ، ومستشفى مجهز بأحدث المعدات الطبية، وبه أمهر الأطباء وأفضل أطقم التمريض، وبه الأدوية الناجعة، ومصنع يُقَــامُ، وسفينة تمخــر عُبـابَ الماء حاملةً خيرات متنوعة ينعــم بها القاصي والداني، وطائرة تنقل المسافرين لطلب علم، أو لتجارة، أو لسياحــة، أو لعــلاج، أو لسـد حاجة محتـاج، كما تتجلى مظاهر الاهتمام الوطني في دعـم ترابط أبنـاء الوطـن، وغرس القيـم النبيلة فيهـم، مثل الصـدق، والأمـانة، وحب العمل، والقيام بالواجب، واحترام الكبير، والعطف على الصغير، وغيرها من القيم الإيجابية البنّاءة، وحينئذٍ نرى الإنسان الوطني الذي نفخر به،

وتتحقق فيه الوطنية التي عناها الحكيم بقوله: (أوطانُ الرجالِ على قدرِ هِمَمهم).
و حينئذٍ يعمل الجميع متكاتفين؛ للنهوض بالوطن، وللرقي به في جميع المجالات، وينهض الوطن بسواعد أبنائه، ويستغني بإنتاجهم، ويزدهر بمجهوداتهم، ويفيض خيره على المواطنين والمقيمين، بل على البلدان المجاورة.

وفي الختام نسأل الله أن يحفظ أوطاننا، وبلاد المسلمين من كل مكروه وسوء، والله من وراء القصد وهو يهدي السّبيل، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربّ العالمين ، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights